الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"هوّة" عمقها ستة قرون

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
- هل أنت مؤمن ؟ / نعم يا سيدى.
- هل تحب الله ؟ / نعم يا سيدى.
- هل أنت مستعد للتضحية بحياتك فى سبيل الدين والرب؟ / نعم يا سيدى.
- هل إذا طلبنا منك قتل الزنديق المنحل المهرطق «رودريجو بورجيا» تفعل؟ / نعم يا سيدى.
حوار يكاد يكون طبق الأصل فى المسلسل الأجنبى «أل بورجيا». حوار بين شاب لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره وأحد القساوسة. يحكى المسلسل قصة الصراع على المقعد البابوى فى الفاتيكان.
لن أتحدث هنا عن القيمة الفنية للمسلسل التى تصل لمستوى أعظم الأعمال السينمائية العالمية. تقع أحداث المسلسل فى عام ١٤٩٢ وهو العام الذى جلس فيه على مقعد البابوية بالفاتيكان البابا «ألكسندر السادس» وهو «رودريجو بورجيا» الإسبانى الأصل (١٤٣١ -١٥٠٣) سجل التاريخ أنه وصل للمقعد البابوى برشوة القساوسة، بينما كان يصارع على المقعد آخرون. لم يكن الصراع من أجل إرساء قواعد الدين ولا إعادة الكنيسة إلى مسيرتها الدينية، ولكن الأمر لم يكن سوى صراع على الكرسى البابوى.
شهدت هذه الفترة بدايات عصر النهضة كما شهدت أيضا جرائم محاكم التفتيش. فالتاريخ ليس له وجه واحد. ففى هذه الفترة أيضا وكما سجل المسلسل ظهر الهوس الدينى فى مواجهة انحلال أسرة بورجيا وكان يشعل نيران الهوس الراهب «سافونا رولا». كان سافونا رولا يجمع الأطفال والشباب حوله مكونا منهم مجموعات يلقنهم فيها أفكاره، ومن أفكاره تلك أن الفن حرام وأن الرب يكره الموسيقى والرسم والرقص والنساء أيضا.كان يطلق الأطفال المشحونين بأفكاره المهووسة لإلقاء الحجارة على بيوت الفنانين وإحراقها. تكرر كثيرا هذا المشهد شديد الجمال الفنى رغم ما يثيره من رعب أيضا.
يلقون الحجارة على بيوت النساء الموصومات بالساحرات. وعلى بيوت الفنانين والكتاب ومن بينهم «ميكافيلى» صاحب كتاب الأمير (١٤٦٩-١٥٢٧). كانت تغيب عقولهم صيحة الراهب: «أحرقوا المهرطقين». كرات من اللهب فى أياديهم وفى صدورهم يلقونها على البيوت ويطاردون بها من يحكم الراهب بأنه مهرطق. فى أحد المشاهد التى صورها المسلسل بدقة فنية تضفى عليها جمالا رغم بشاعة ما حدث هو إحراق بيت ميكافيلى وإحراق لوحات رسام عصر النهضة «ساندرو بوتيشيلى»، ثم تصوير مشهد وهو من أهم المشاهد والوقائع فى محاكم التفتيش وهو إحراق النساء الموصومات بالساحرات.
تاريخ أسس للعنف حتى إن بعض المؤرخين أرجعوا تشكيل كتائب وميليشيات هتلر وموسولينى من الأطفال والشباب إلى اتخاذ نفس النمط الذى شكل به «سافونا رولا» وغيره من رجال الدين مجموعاتهم التى كانت تحكم تقريبا حركة الحياة فى فلورنسا حيث عاش رولا وفى غيرها من الدول الأوروبية.
منذ ستة قرون عاشت أوروبا الكارثة الإنسانية المسماة بمحاكم التفتيش، ولكنها خرجت منها إلى عصر النهضة أى عصر العلم والفن والصناعة. ستة قرون إذًا تلك التى تفصل بيننا وبينهم. إنها هوة عمقها ستة قرون، فما زالت محاكم التفتيش منصوبة فى بلادنا. محاكم التفتيش يقودها البغدادى وقبله أسامة بن لادن ومعه أيمن الظواهرى.. محاكم تفتيش تحكم بالقتل وبالحرق وتنفذ أحكامها. ستة قرون وما زال فى بلادنا من يدمر آثار تدمر والموصل وتماثيل بوذا فى أفغانستان.. ما زال فى بلادنا رجال الدين هم أنفسهم وبنفس العقلية الظلامية كالتى كانوا يحكمون بها الحياة فى العصور الوسطى ومنهم كما هو معلوم عبدالمنعم الشحات وياسر برهامى وغيرهما من شيوخ الوهابية الذين أفتوا بتدمير آثارنا الفرعونية، وذلك المدعو بالعريفى الذى أفتى بضرورة ضرب النساء لتأديبهن كما تضرب الحيوانات لترويضها.
إنها هوة عمقها ستة قرون تفصل بيننا وبين الحق فى نور العقل واحترام العلم والإنسان والحياة.