السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

على اسم مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يظهر على شاشة التليفزيون من تبدو على وجوههم وملابسهم آثار النعمة، يتحدثون بتأثر عميق عن أحوال الفقراء فى بلادنا؛ وضرورة الاهتمام بمعاناتهم، وليس من بأس فى ذلك؛ فالعديد من أثرياء العالم أحسوا بآلام الفقراء ومعاناتهم؛ وبعضهم من المستثمرين أدرك أن تحسين أحوال هؤلاء الفقراء سوف يعود بالنفع اقتصاديًا على استثماراتهم؛ ولكن الفارق أن هؤلاء لم يكتفوا بكلمات التعاطف بل ترجموها إلى منشآت طبية وتعليمية تأخذ بيد أولئك الفقراء وتحسن من أحوالهم.
ولكن ما يستلفت الانتباه حقًا أن أولئك المتحدثين لا يلبثون أن يؤكدوا وهم بصدد التعاطف مع الفقراء، أن المرء لا يكون منتميًا للوطن بحق إلا إذا توفرت له لقمة العيش والأمن والصحة؛ وإلا فلا مكان لحديث عن انتماء. قد يكون الدافع طيبًا إذا كان بقصد حث السلطة على السعى لتحقيق العيش الكريم للمواطنين، وهو أمر واجب ولا علاقة له بالانتماء؛ ومن ثم يصبح الانتماء للوطن حكرًا عليهم؛ وتصبح حتى مشاركة أولئك الفقراء فى الانتخابات والاستفتاءات محل نظر بل ومصدر خطر؛ ولا يفوت هؤلاء أحيانا التلويح بأن ما يذهبون إليه ليس مجرد وجهة نظر بل حقيقة علمية ثابتة.
ولعل الحقيقة العلمية المقصودة فى ذلك السياق، هى ذلك التصور النظرى الذى طرحه عالم النفس الأمريكى مازلو، باسم «مدرج الحاجات» ويعنى باختصار أن الحاجات الأساسية كالجوع والعطش والأمن ينبغى إشباعها أولًا قبل أن يحس الفرد بحاجته إلى الانتماء والحب والتعاطف والنجاح واحترام الذات، بما يفهم منه أن الجائع الذى يفتقد الأمن لا يشعر بالحاجة للانتماء.
وليس غريبًا أن تصدر مثل هذه الفكرة من مازلو ابن الحضارة الأمريكية البراجماتية، التى لا تولى اهتماما كبيرا للتاريخ؛ فى ضوء حقيقة أن الانتماء للوطن إنما يتم عبر عملية تاريخية طويلة، كما لا يجد متخصص فى علم النفس السياسى صعوبة فى تفنيد القول بأن الانتماء والحب والتعاطف أمور يختص بها الشبعى الأصحاء الآمنون، أما غيرهم من الفقراء الجوعى المرضى المتعطلين فليس لهم من ذلك نصيب.
إن حقائق التاريخ فضلًا عن وقائع الحاضر، تشير إلى أنه لا علاقة البتة بين هذا وذاك؛ فكما أن من الأثرياء الشبعى من يجودون بأموالهم بل وبحياتهم فى سبيل انتمائهم لأوطانهم، فإن الفقراء الجوعى بحكم أنهم الغالبية يشكلون غالبية الذين يتقدمون الصفوف للتضحية بأرواحهم فى سبيل تحقيق حلم بوطن حر ومواطن سعيد، باعتبار أنهم الأكثر معاناة والأشد تضررا من سلبيات الحاضر فى بلادهم، والأشد يقينا بأنهم وليس سواهم المسئولون عن تحسين أحوال أوطانهم.
لقد كان الفقراء والجياع والمظلومون هم أول من التف حول دعوات العدل السماوية وعلى السواء، وكانوا وقودا لها عبر التاريخ فى حين كان لغالبية الشبعى والمترفين مواقف أخرى.
لقد سادت بيننا تصورات تخلط بين الثورة وخيانة الوطن، وبين الاحتجاجات الاجتماعية وعدم الانتماء، وبين رصاصات إرهاب يدمر الوطن واحتجاجات تسعى لمستقبل أفضل لهذا الوطن؛ وأصبح البعض ينظرون إلى كل من يعبرون عن ضيقهم بفقرهم وافتقادهم للعدل والحرية والعيش الكريم؛ باعتبارهم «لا يحبون مصر»، وأنهم قد فقدوا انتماءهم للوطن؛ كما لو كان حب الوطن يعنى الحفاظ على تلك السلبيات التى تنخر فيه.
ويكاد يغيب عن هؤلاء أن الانتماء للوطن شعور داخلى لا يمنح أو ينزع بقرار سلطوى، بل يتشكل عبر عملية تاريخية لا علاقة لها بوثائق الهوية وجوازات السفر وأوراق إثبات الشخصية. لقد لجأت يومًا إلى المقارنة بين «الوطن» و«الفندق»: إن نزلاء الفنادق إذا لم يجدوا خلال إقامتهم ما يعادل ما دفعوه، فإنهم قد يصرخون محتجين على الإدارة التى خدعتهم بل وقد يحطمون بعض الأشياء تعبيرا عن سخطهم ومطالبتهم بحقوقهم؛ لكنهم أبدا لا يطالبون بإشراكهم فى إدارة الفندق، أو حتى الإطاحة بالإدارة القديمة و«انتخاب» إدارة جديدة؛ فالفندق فى النهاية ليس فندقهم بأى حال؛ بل مكان دفعوا لأصحابه مقابلا لإعاشتهم فإذا ما لم يفوا بالتزاماتهم فما أكثر الفنادق. والأمر يختلف بالنسبة للوطن.
إنه «بيتي»، إذا ما أحسست أن أحدا قد اغتصب حقى فى بيتى، فإننى سأصرخ وأحتج وأقاوم وأدفع ثمن مقاومتى دون أن أحرق البيت أو أدمره. إننى قد أترك بيتى مؤقتا سعيا للرزق لأزيد من قدرتى على تحسين حياتى فى بيتى العائد إليه يوما. لكنى لن أترك بيتى لأحد ولن أسمح لأحد بتدميره.
قد تتشابه صرخات الاحتجاج والتنديد بالسلبيات فى حالتى الفندق والوطن، ولكن الفارق الجوهرى هو أن الصرخات فى الحالة الأولى صرخات مؤقتة سرعان ما تخفت بل وتنسى بعد ترك الفندق، أما فى حالة الوطن فإنها تستمر وتتصاعد حتى لو اضطر المرء لترك بيته مؤقتًا، فالمهاجر يأخذ صورة وطنه داخله آملًا أن تنجح الجهود فى تحسين الأوضاع وإن طال الزمن.
خلاصة القول إن الانتماء للوطن ليس بقاصر على الأغنياء دون الفقراء، ولا على الشبعى دون الجياع، ولا على المتعلمين دون الأميين؛ وكلما علت أصوات المحتجين على السلبيات، كان ذلك دليلًا على الانتماء للوطن وليس العكس. ورحم الله شاعرنا المبدع صلاح جاهين القائل فى حب مصر:
بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
وأكرهها وألعن أبوها بعشق زى الداء
وأسيبها وأطفش فى درب وتبقى هى ف درب
وتلتفت تلقينى جنبها فى الكرب
والنبض ينفض عروقى بألف نغمة وضرب
على اسم مصر