الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سيد قطب.. طفلٌ من القرية! (13)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

توقفنا في مقالنا الفائت عن ذكر "طفل القرية: سيد قطب" لما أسماه حادثًا لم ينسه، والذي يتبين من خلال ما سرد هو بعده، أنه محض حدث تافه كالعادة التي عودنا عليها "سيد" من تضخيم ما لا يستحق التضخيم، وذلك بسبب مرض "تضخم الذات، وجنون العظمة" الذي كان يعاني منه "سيد قطب" بشدة! والذي ظل كذلك يعاني منه حتى مات، بل لقد كان هذا الداء سببًا أساسيًا في إعدامه وتعليقه على أعواد المشانق!
حيث قال "سيد قطب" في كتيبه الذي أسماه "طفلٌ من القرية"، تقليدًا لــ "طه حسين" في كتابه "الأيام" ما نصه: أما الحادث الذي لا ينساه، فهو هذا الحادث: كانت المدرسة جارية كعادتها في هينة وتؤدة ( يقال: امش على هينتك: يعني على مهلك أي ببطء، والتؤدة: أي بتأنٍ وتمهل)، الجو قائظ (شديد الحر) في نهاية العام، التلاميذ خاملون (أي: كسالى)، والمدرس قد ثقلت عليه جُبته فتخفف منها، وألقاها على مسند المقعد، وثقلت عليه عمامته فأمسك بها من مقبض الزر في رفق كي لا تُنكث، وألقى بها على قمطر التلميذ الأول، وجلس على كرسيه في تراخ ظاهر، وباعد ما بين فخذيه، فانفسخ القفطان، وبدت منه "تكة"! السراويل المتدلية في غير ما كُلفة، وبينما الوقت يمر والدنيا هادئة، والجميع في تهويمة لذيذة (تهويم الرجل: أي نومه نومًا خفيفًا)، إذا بشبح طويل فارع، يقفز من النافذة متدليًا (التدلي: النزول من أعلى إلى أسفل) إلى حجرة الدراسة فيصبح معهم في لحظة!
وريع التلاميذ (أي خافوا)، وجمد الدم في عروقهم! وشخصت أبصارهم (يقال شخص البصر: إذا اتسعت العين دون أن تطرف) إلى الشيح المتسلق، وندّت (ندت الكلمة :أي شذت) منهم صيحات مذعورة، واضطرب المدرس، وقام يمسك عمامته بيد، ويحاول أن يرتدي بجبته باليد الأخرى فلا يستطيع !
والشيخ تنفرج ثناياه (أي تنكشف أسنانه) عن ابتسامة صفراء كالحة (وجه كالح: أي شديد العبوس)، ولسانه ينطق في تهكم مر، وهو يهز رأسه دائمًا: ما شاء الله.. ما شاء الله.. ما شاء الله !
ماذا ؟!..
إنه المفتش، مفتش الوزارة، قد أوقف حماره الذي يركبه عادة للحضور من البندر إلى القرية! أوقفه تحت النافذة تمامًا، وأنصت (يعني تسمع باهتمام بالغ)، ثم قفز على ظهره واقفًا، فأصبح قريبًا من النافذة ثم تسلقها ليضبط كل شيء!
و كانت هذه طريقة مبتكرة في التفتيش!
(و لعل هذا كان أحد أسباب تعلق "سيد قطب" فيما بعد في أن يعمل وزيرًا للمعارف، وكذلك في رغبته، بل وفي طلبه المباشر وإلحاحه الشديد على قادة حركة 23يوليو 1952 م بأن يعينوه وزيرًا للمعارف، ولما عينوه مفتشًا في الوزارة وليس وزيرًا كما كان يريد ويطلب، كانت هذه أول القطيعة بينه وبينهم، لأنه كان يريد أن يكون أعلى قامة من المفتش الذي كان يرعبه ويخيفه، ويخيف أساتذته في مدرسته الصغيرة، وأما ضباط يوليو فقد كانوا يرونه لا يصلح للوزارة، وأن إمكانياته لا تؤهله إلا ليكون في التفتيش، لا في المكان الذي يريد هو، في الوقت الذي كان هو يرى نفسه يصلح لكل شيء في الدنيا، فهو المدرس والعالم والقائد والمصلح، وهو الثوري وهو الإمام وهو الوزير وهو المفتش وهو كل شيء في آن واحد!  كان سبب إلحاحه على قادة يوليو في أن يعينوه وزيرًا للمعارف إذن هو أن يتقمص شخصية مفتش الوزارة الذي كان يتسلق الجدران لكي يحرج المدرس أمام تلاميذه ولكي يرعب المدرسين والتلاميذ على حدٍ سواء، وكأنه يريد أن يقول لهم: هل رأيتموني وأنا مخيف؟!
و حتى يكون في مرتبة أعلى من مرتبة المفتش الذي كان يتسلق جدران النوافذ، ليعود وهو الوزير إلى قريته ومدرسته، ليقول لهم: لقد عدت إليكم أعلى مكانة وأشد فتكًا ورعبًا من المفتش الذي كان يرعبكم جمعيًا!
و هو أمر آخر يكشف عن جانب جديد من جوانب شخصية "سيد قطب" السوداء، وعن منطقة مظلمة جديدة من جوانب نفسيته المعقدة والمريضة، وعن أمراضه النفسية المعقدة والمتشابكة والتي جعلته عاشقًا للتشفي في الآخرين ومحبًا للتسلط عليهم وراغبًا بشدة في التجبر والتعالي والسيطرة والإذلال للآخر! )
ثم يقول: وصورة أخرى لا يملك أن ينساها كذلك (يقصد نفسه!): "فقد" كان النظار (جمع ناظر وهو دون مدير المدرسة بدرجة واحدة)، والمدرسون يتعاقبون على المدرسة والتلاميذ بسبب التنقلات السنوية المعتادة .
و حينما كان في السنة الرابعة عُين ناظرًا، شيخ مسن تلقى تعليمه في الأزهر، ثم التحق بمجلس المديرية، كان الرجل أشيب، صلع رأسه سوى دائرة حلقية، وكانت العمامة تستر هذه الصلعة، فإذا رفعها تبدت من تحتها كاملة، وكانت هذه الصلعة مثار ضحك التلاميذ الشياطين! وسخريتهم .
( وكانت هذه أول إساءة ذكرها "سيد قطب" للأزهر الشريف متمثلة في شخص الناظر الأزهري والذي أخذ وبمنتهى المنتهى من ثقل الظل يسخر من صلعته، ناسبًا ذلك إلى الشياطين! من التلاميذ، وكأنه أراد أن يبرأ نفسه من ذلك، ولكن كبرت كلمة تخرج من فمه ومن قلمه وما يخفي صدره أكبر وأعظم!) .
يقول: وفي يوم تمت مؤامرة بين عفاريت التلاميذ! وبينما الشيخ جالس يصحح الكراسات، والتلاميذ من حوله مجتمعون، وهو مستغرق في العمل، شاهد التلاميذ عمامة ترتفع شيئًا فشيئًا عن رأس الشيخ حتى تتوسط الحجرة، ثم تسقط فجأة عندما يقف الشيخ مزمجرًا، بينما ينفجر الضحك من حلوق التلاميذ وعيونهم، ويترقرق في عيونهم الدمع لشدة مغالبة الضحك المكتوم!
كانت لعبة الشط والبكرة قد عملت عملها في عمامة الشيخ المسكين! (المسكين هنا للاستهزاء لا للشفقة!) فلما تنبه ترك التلميذ الخيط فسقطت سقطة مفاجئة!
(هذا الاستهزاء الشديد بالشيخ الأزهري ظل هو الأساس القائم عند "سيد قطب"، وهو العلاقة التي كانت تربطه فيما بعد، وطوال حياته مع الأزهر الشريف وعلمائه، بل وورثها لأتباعه، فأصبح كراهية الأزهر وعلمائه وتكفيره وتكفيرهم، وإن استخدم بعضهم التقية فأخفى اعتقاده هذا في بعض الأحيان، ولكن يظل الاعتقاد الذي ينعقد عليه القلب هو كراهية "سيد قطب" وأتباع "سيد قطب" للأزهر الشريف وعلمائه وتكفيرهم له ولهم!)
بل لقد تجاوز "سيد قطب" الحد حتى وصل به الأمر من كراهية الأزهر الشريف إلى كراهية الدين نفسه، وترك ذلك أبلغ الأثر في قلبه حتى وصل إلى الإلحاد والكفر والشك في إحدى مراحل حياته، وهو موضوع مهم سوف نفرغ له -إن شاء الله- ابتداءً من المقال القادم تحت عنوان :"دين سيد قطب" !