رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شكسبير بين الشعب والطاغية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من بين أعمال شكسبير العديدة التى قرأتها على فترات متباعدة، ترك آخر عمل قرأته، وهو «كوريولانس»، أثرًا غريبًا فى نفسى، وهو أثر مستمر ويتزايد بمرور الوقت، كلما تأملت الواقع والأحداث المتتابعة حولنا. 
بدأت قصتى مع هذا النص من خلال الفيلم الذى أخرجه ولعب بطولته الممثل الإنجليزى راف فينيس، منذ حوالى خمس سنوات.
فى ذلك الوقت كانت ثورات الربيع العربى فى بداياتها، ولم يكن بمقدور أحد أن يتوقع شكل الأحداث القادمة، ولا المسار الذى يمكن أن تذهب إليه الأنظمة والمجتمعات التى ضربها إعصار التغيير.
فى البداية خطفنى أسلوب الفيلم، الذى ينتمى إلى ما يعرف بمدرسة أو اتجاه ما بعد الحداثة، كما يمكن أن يتبين القارئ عندما أصل للحديث عن الفيلم ببعض التفصيل.
بعد ثلاث سنوات عدت إلى الفيلم من جديد، وإلى قراءة نص المسرحية الأصلى، مندهشًا إلى حد الانبهار من عبقرية شكسبير، الذى كتب منذ ٤٠٠ عام، عن حدث تاريخى سبق زمن شكسبير بألفي عام، ولكن المسرحية تبدو وكأنها كتبت ليلة أمس أو اليوم!
تدور «كوريولانس» فى روما القديمة، فى القرن الخامس قبل الميلاد، خلال الفترة التى شهدت أول حياة سياسية «ديمقراطية» فى التاريخ، عندما أدت ثورات الشعب المتعاقبة إلى الإطاحة بنظام الملوك أنصاف الآلهة، وإرساء نظام انتخابى متعدد، تشارك فيه طبقتا الارستقراط والعامة بانتخاب نواب يمثلون كلًا من الطبقتين فى «الكابيتول»، أو البرلمان، كما يشارك فيه الجميع بانتخاب الحاكم، الذى كان يلقب بالمستشار.
تتعرض روما لغزو الولايات المجاورة، كما تتعرض لمجاعة هائلة، ولكن القائد العسكرى الأسطورى كايوس مارسيوس، الشهير باسم «كوريولانس»، نسبة إلى مدينة «كورية» التى قام بغزوها، ينجح فى صد الأعداء عن المدينة، ويتحول إلى بطلها وملهمها وأملها.
بطبيعة الحال يقوم أعضاء الكابيتول بترشيح كوريولانس لمنصب المستشار، وهم لا يفعلون ذلك بدافع حب الوطن، ولكن استغلالًا لشعبيته، وطمعًا فى الحفاظ على ثرواتهم ومكانتهم، وأيضا ليضمنوا إعادة انتخابهم فى الانتخابات القادمة، لكن كوريولانس رجل عسكرى، لا يفهم فى ألاعيب ومؤامرات السياسة، وهو يعتز بنفسه، وبالجروح التى تغطى جسده، ويحتقر العامة والدهماء، ولذلك يرفض أن يعرض جسده ونفسه أمام الشعب ليقنعهم بانتخابه، كما أنه يرفض مطالب ممثلى الطبقة الشعبية بفتح مخازن الحبوب لإطعام الجوعى، إلا إذا تخلوا عن «حقهم» فى الديمقراطية، أى اختيار ممثلين عنهم فى البرلمان!
بطبيعة الحال يرفض الكثيرون ذلك، مفضلين الموت جوعًا عن فقدان حقوقهم السياسية، ويحرضهم على ذلك أعضاء البرلمان الممثلين للشعب وبعض الطامعين فى الاستيلاء على مقعد كوريولانس، الذين ضربتهم الغيرة، خاصة أن كوريولانس يبدى لهم احتقارًا لا يقل عن الاحتقار الذى يبديه للشعب. 
بين ليلة وضحاها، أو بين ليلة والمؤامرات التى تمت فيها، يتحول كوريولانس إلى عدو للجميع، الارستقراط والشعب. يثور الجميع، شعبًا وسياسيين، ضد كوريولانس، ويصوتون على نفيه من المدينة، فى الوقت الذى يواصل فيه رفضه للتنازل عن كبريائه وغطرسته، تاركًا المدينة، منضمًا إلى أعدائها، الذين كانوا حتى الأمس القريب أعداءه، ليعود إليها مرة أخيرة، ليس كمحارب من أجلها، ولكن كمحارب ضدها، مصمما على إبادتها.
قليلة هى الأعمال الفنية الدرامية التى لا تحتوى على بطل يتعاطف معه الجمهور، وتقف موقفًا محايدًا، متشائمًا، مركزًا على عيوب شخصياتها المتصارعة، وقليلة هى الأعمال التى تجرؤ ليس فقط على مهاجمة السلطة المستبدة، المغرورة، ولكن الشعب الضعيف، الجاهل، الذى «تجمعه طبلة، وتفرقه عصا» كما يقول المثل الشعبى المصرى، ومن الغريب أن شكسبير فعل ذلك قبل الجميع.
يمكن للمفكر أو الفنان الذى ينحاز للشعب ضد السلطة أن يصبح بطلًا، ويمكن للفنان والمفكر الذى يكشف كيف تقوم السلطة بخداع و«تجهيل» الشعب أن ينال التقدير والإعجاب، ولكن الفنان أو المفكر الذى يلوم الجموع و«الديمقراطية» - أى حكم الشعب لنفسه - غالبًا لا يلقى سوى اللعنات والاتهامات بأنه عميل السلطة وعدو الشعب.
يدور الصراع فى «كوريولانس» بين المحارب والشعب، وكل منهما أعمى لا يرى الآخر، ولا يرى كيف يتم التلاعب به من قبل المتآمرين والمتلاعبين بالنظام الديمقراطى ومشاعر الجموع، ليس فقط من قبل أصحاب الجاه والثروة والنفوذ، ولكن من قبل ممثلى المعارضة الشعبية، الذين أفسدهم القرب من السلطة وغواياتها، ما يودى بالبلد إلى التهلكة.
من الطريف أيضًا أن مسرحية «كوريولانس» واحدة من أقل أعمال شكسبير شهرة وشعبية، لأنها غالبًا ما تثير حيرة وغضب جمهورها من العامة والخاصة، النبلاء والدهماء، المستبدون والرعاع. وهو أمر طبيعى لسبب رئيسى فى اعتقادى أنها سابقة لزمنها، كما أنها وليدة مرحلة متأخرة من حياة شكسبير الأدبية، التى كتب خلالها أكثر أعماله تشاؤمًا وإحباطًا من الوضع البشرى عموما. والفيلم المأخوذ عنها، الذى صنعه راف فينيس، هو أول عمل سينمائى يصنع عنها، على حد علمى.
يدور فيلم فينيس فى مدينة خيالية، يتحدث فيها الناس بلغة شكسبير ومفرداته، لكنهم يركبون السيارات ويستخدمون المدافع ويرتدون الملابس الحديثة، مدينة قد تشبه إحدى بلاد أمريكا اللاتينية، أو شرق آسيا، أو الشرق الأوسط.
فى الحقيقة يبدو العالم وكأنه يعيد إنتاج نفسه منذ زمن كوريولانس.