الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الوطن في عيون الأبنودي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


اليوم يمر عام على وفاة الشاعر والصديق عبدالرحمن الأبنودي، الذى ملأ الدنيا شعرًا وغناء وحبًا لهذا الوطن.
فى آخر مكالمات جرت بينى وبينه أوصانى الخال على مصر: «لا تترك الخونة، طاردهم حتى قبورهم، لا تخش أحدًا منهم».
وعندما أهدانى ديوانه الأخير «مربعات الأبنودي»، كتب الخال فى الإهداء: «إلى الرجل الشجاع، الذى كشف كذب البتاعة والبتاع، والذى يستمد شجاعته من حلم يحاول أن يقبض عليه ويجلبه لشعبه وثورته، إلى أخى عبدالرحيم على، أمده الله بشجاعة المواصلة نحو النور».
لم أنم ليلتها، كان ما بينى وبينه مشاعر الغريب والغربة، عاش وعشت فى القاهرة لكننا أبدا لم ننتم إليها، كانت جذورنا تشدنا إلى حيث ولدنا وترعرعنا ولعبنا وصادقنا، إلى سنوات التكوين الأولى فى مدن النخل المنسية فى صعيد مصر، عندما كنا نشارك، أنا وهو، وحيد حامد الإعداد لمسلسل «الجماعة» تقابلنا فى «جراند حياة»، فاجأنى الخال بالقول: «كتبت الأرض للبنات ولا لسه، لم يدر بخلدى ما كان يدور بخلد الخال، كنت أعتقد أنه يضحك معى كعادته، ولكننى فوجئت بعلامات الجد ترتسم على وجهه: أنا باتكلم معاك بجد، الجماعة دول مش هيسيبوك، إلحق اكتب كل اللى حيلتك لبناتك، مش عندك تلاتة، قلت له وعندى كمان «خالد» يا خال، ابتسم الشاعر الكبير وقال لي: لحقت تجيب لك واد.. كويس».
أذكر عندما قالت لى ابنتى شاهندة: عايزة أكلم الأستاذ عبدالرحمن.. قلت لها مستنكرا: مين عبدالرحمن؟ فلم أعهد أن أنطق باسمه، كنت دائما أناديه بالخال ككل أصدقائه ومريديه وعشاقه، قالت لى أقصد الخال، وعندما طلبته وأعطيتها السماعة ليتحدث معها عادت إلىّ فرحة للغاية، قال لها الخال ما كان يقوله لى ليشجعنى على الاستمرار، وظلت شاهندة تحكى لأصدقائها ما قاله لها الخال عنى حتى اليوم، فهى تعرف جيدا قيمة الخال فى المجتمع المصرى والعربى كواحد من أهم شعراء العامية فى مصر، وأهم حكماء عصرنا.
تعلمنا من الخال كيف نحب بلادنا من خلال إبراهيم أبوالعيون، وعندما كان يسألنى أصدقائى بعد وصول الإخوان إلى السلطة: لماذا لا تهاجر؟ كنت أرد بنفس الطريقة التى رد بها عم إبراهيم أبوالعيون على الخال عندما سأله بعد هزيمة يونيو: لماذا لم تترك تلك الأرض كما هاجر الجميع يا عم إبراهيم؟ كانت إجابة الرجل التى خطها الأبنودى فى ديوانه العبقرى «وجوه على الشط» تسكننى دائمًا: «الناس بتفر يا ولدى بعمرها وأنا عمرى قدامك فى الأرض دي، آخده وأروح بيه فين».
كان اعتقادي، ولم يزل، هو ما علمنى إياه الخال عبدالرحمن الأبنودي، الوطن هو الديانة، والوطن من غير ما نواجههم خيانة، أصلب عودنا من قراءة شعره، وغزا الشيب رأسنا من حفظ أبياته. الخال ليس شاعرنا المحبب وفقط ولكنه الأب والصديق، مؤرخ عمرنا، وأيامنا، عرفنا من خلاله كيف تسبب تعالى الشيوعيين على الناس برغم ادعائهم القتال من أجلهم حتى فقدوا تعاطفهم، من خلال «إذا مش نازلين للناس فبلاش»، وتعرفنا على عمق هزيمة يونيو من خلال أغنيته الشهيرة التى صدح بها صوت العندليب عبدالحليم حافظ: «عدى النهار، والمغربية جاية، بتتخفى ورا ضل الشجر، وعشان نتوه فى السكة، شالت من ليالينا القمر».
تعرفنا على فلسفة الموت مع قصيدته الرائعة: «يامنة»، «إذا جاك الموت يا وليدى اشلح اجلح إنت الكسبان، إوعى تحسبها حساب بلا واد بلا بت، ده زمن يوم ما يصدق كداب». 
عندما جاءه الموت نفذ الأبنودى وصية العمة يامنة حرفيًا، لم يحاول كما قالت له إنه "يزود يوم عن يومه"، لأن "اللى يحاول يزود يوم عن يومه حمار"، والأبنودى كان إنسانًا، لكن "مش زى إنسان هذا العصر"، فلم يكن أبدًا خوانًا، ولا إخوانًا، كان يكره سيرة الإخوان كما يكره سيرة الصهاينة والأمريكان، كان بيحب الشعر والفقرا ومصر وابنتيه، آية ونور.
هل كان الموت هو ما هزم الأبنودى؟ أم عراكه المستمر طوال السنوات التى تلت الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، هو ما أتعب قلبه وأسلمه للموت؟
فرح الأبنودى بالثورة وغنى لها، وإذا بالحرامية يأتون فيسرقونها منه ومنا، ليحزن الأبنودى ويبدأ معركته من جديد، «مش مكتوبلنا الراحة يا وليدي.. قال لي، أنا وأنت اتخلقنا للمعارك والحزن وبس.. إنما الفرح يا خال له ناسه..»، رحم الله الخال وألهمنا وألهم كل عشاقه فى مصر والوطن العربى الصبر والسلوان.