رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سيد قطب.. طفلٌ من القرية! "11"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
توقفنا في المقال الأخير عند ذكر "سيد قطب.. طفل القرية" أنه كان قد أنهى دراسته في المدرسة وهو لا يزال بعدُ طفلًا صغيرًا في السن، بما يعني الخروج من المدرسة لإنهائه مدة الدراسة بها، وكذلك لن يُسمح له بالدخول إلى مدرسة المعلمين والتي تشترط سنًا بعينه لم يكن قد بلغه "سيد" حينها، وهو ما يعني أنه سوف يتوقف عن الدراسة في المدرسة وكذلك لن يمكنه الانتساب لدار العلوم لصغر سنه، وتوقفنا كذلك أن زعم "سيد قطب" أن المدرسين في المدرسة كانوا قد حزنوا لخروجه من المدرسة، وأنهم كان قد عزَّ عليهم فراقه!!، بل لقد زاد "سيد قطب" على ذلك فزعم أنه كان حجة المدرسة الأولى والكبرى!(لعله من الجيد هنا، والذي قد يحسب أنه نوع من التواضع! أنه من لم يزد على ذلك فزعم أنه حجة الله على خلقه، وإن كانت هناك في بعض كتاباته الإسلامية فيما بعدُ ما يوحي بكونه كان يرى نفسه كذلك بالفعل!) على تفوقها على ألد أعدائها ألا وهو كُتَّاب القرية!.
كانت هذه الحالة التي ظلت تعتري "سيد قطب" بين الحين للآخر حتى مات، ألا وهي إحساسه الشديد بالتضخم للذات، والتشبع بما لم يعطَّ! وادعاءات البطولة الفارغة، بل والدنكيشوتية المرتفعة! فزعم أن المدرسة كانت في حاجة إليه، وأنه وحده كان السبيل الأمثل، والقوة الوحيدة والتي تحمي المدرسة وتحفظها من الانهيار والاندثار!
وهذه الحالة العجيبة من تضخيم الذات ظلت مع "سيد قطب" حتى بعدما كبر، بل وحتى مات، فكان مصابًا بحالة شديدة واضحة غاية الوضوح من الكبر والتعالي، وكأن العالم كله يدور من حوله، أو كأنه هو مركز العالم، ولا يمكن بحال أن نفهم "سيد قطب" وندرسه دراسة حقيقية دون فهم داخله، ودون المعرفة الدقيقة لنفسيته، والتفهم الكامل لأسلوبه، بل والغوص الكامل في داخل مخه وعقله، والذي لا يمكن أن يكون دون دراسة فترة طفولته، دراسة مستفيضة والتي كانت – وبلا شك- هي الأساس الكامل لكل ما أتى بعدها، بالإضافة لميزة مهمة أخرى أن من دَوَّنها وكتبها بيده هو "سيد قطب" نفسه، وهو ما يدفع تمامًا عنها احتمال الكذب أو الغرض أو المجاملة على حدٍ سواء، وإنما كما تكون الحالة كما يقال: "من فمك أدينك".
ولعل هذا هو السبب المباشر في الإطالة والاستفاضة بل والغرق في التفاصيل لفترة طفولة "سيد"؛ لأنها هي التي ستكون الباب الواسع الذي نلج من خلاله لدراسة كل تقلبات حياة "سيد قطب" فيما بعد من حياته، ونفهم أفكاره، وندرسها دراسة وافية، وهو ما لا يمكن أن تكون معه دراستنا علمية وسليمة وحقيقية دون أن نفهم لمرحلة الطفولة والتي تعتبر قاموس دوافع "سيد قطب" وأساس أمراضه النفسية المعقدة.
ولهذا فإنني أرجو من القارئ المكرم أن يسامحني إذا وجد نوعًا من الإطالة في أمور قد يراها غير ذي فائدة، ولكنه حين نصل معًا فيما بعدُ إلى مراحل حياة "سيد قطب" المتعاقبة، والمختلفة، بل والمتناقضة، ساعتها فقط، سوف يدرك القارئ المكرم أهمية الاستفاضة في ذكر مرحلة الطفولة، لأن مراحل حياته المختلفة كانت مؤسسة على مرحلة الطفولة بتفاصيلها المستفيضة، والمملة في بعض الأحيان!
وهو ما يجعلنا نهتم تمام الاهتمام بكل تفاصيل الطفولة، لأن إغفال واحدة منها قد يوقعنا في الحيرة عند محاولة فهم أحوال "سيد" ودوافع أفعال وأسس أفكاره فيما بعد.
فالذي أرجوه هو شيءٌ من الصبر وطول النَفَس، فما هو آتٍ مثير إلى أبعد الحدود.
وأما الآن فلنعود إلى ما توقفنا عنده في المرة الفائتة من ذكره لإنهاء دراسته في المدرسة، وفزع المدرسين لذلك، ورغبتهم في عودته إلى المدرسة مرة أخرى، بل ونجاحهم في ذلك، حيث قال "طفل القرية.. سيد قطب" ما نصه: وما كان أسرع ما احتالوا (أي: الأفنديات أو المدرسين) لذلك (أي: لعودته للمدرسة) فقيدوا اسمه في السنة الرابعة بعد مضي شهر من العام التالي على أنه مستجد!
وهكذا عاد إلى المدرسة الحبيبة ليقضي بين جدرانها عامًا آخر، يضاف إلى الأعوام السعيدة الجميلة.
ومضى ربع قرن، سافر أثنائه إلى القاهرة، وأتم دراسته العالية، وشغل مناصب كثيرة!، ولكنه لا يعود اليوم إلى القرية حتى يتوجه إلى المدرسة المقدسة! فإذا تجاوز العتبة أحس برهبة التلميذ وخشوع العبادة!
ولو سئل أحلى أمانيه (يقصد نفسه!) لأجاب: أنه يتمنى أن يعود تلميذًا في المدرسة المقدسة ينافح عنها الكُتّاب وصبيان الكُتّاب! 
وإن عشرات الصور العجيبة والحبيبة لتقفز إلى مخيلته (المخيلة: هي القوة التي تصور الأشياء وتصورها في العقل البشري)، وتتراقص! في خاطره وكأنما يعيشها من جديد، وهو يتخطى العتبة المقدسة!
فهو يذكر تلك الفترة التي كانت المدرسة تستحيل فيها إلى شبه جزيرة يحيط بها الماء من ثلاث جهات، وتبقى الجهة الرابعة وحدها في طريق الوصول، كان يقع ذلك أيام فيضان النيل، إذ كانت قريته تغمر بهذا الفيضان شهرين في العام، وتنكشف الأرض للزرع بقية العام!
وكانت المدرسة بحكم موقعها في طرف البلدة على حدود الحقل تحتاطها مياه الفيضان، إلا مسلكًا واحدًا طوال هذين الشهرين الجميلين.
كان جمالها يوم السبت من كل أسبوع!
فما كان من حيث يوم السبت من كل أسبوع، وجمال يوم السبت من كل أسبوع، فهو ما سنأتي على ذكره، إن شاء الله تعالى في المقال القادم.
وفي المقال القادم، للحديث بقية، إنْ شاء ربُّ البرية.