الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صدفة تستحق أن نصنعها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
شهيق عميق فى ساعات الصباح التى تسبق شروق الشمس، شهيق تنفتح له مسام العمر والأيام والجسد، هواء ناعم، هادئ يحتفظ بنقاء الليل، لم تعكر صفوه حمولة النهار الذى يوشك على القدوم، تبدأ الشمس صراعها اليومى على مساحتها الدائمة وحقها فى هذا الجزء من العالم.
فى تلك الدقائق التى سبقتها ساعات وسوف يلحق بها دقائق أخرى وساعات أخرى وأيام وأعمار تطول أو تقصر، ولا يعرف أحد فيها القادم ومن وماذا سيأخذ مكان صورة وجه جوليو ريجينى الباحث الإيطالى بعد أن تهشمت براءته وجمال وجهه تحت آلة تعذيب متوحشة، لم ترحمه بالموت السريع، آلة حقيرة استعذبت إطالة وقت ألمه، ويظل السؤال الذى سيختفى بعد الوقت ويأتى سؤال غيره من الذى عذب ومن الذى قتل ومن الذى انتهك قدسية الحياة وشوه وجه الإنسانية؟.
صدفة تقود الأقدام فى شارع ما زال الهواء فيه نقيا رغم أن هناك ما يلوث هذا النقاء، فتلحل ذكرى الدم الذى أراقه القاتل رفاعة طه القيادى بالجماعة الإسلامية ورئيس مجلس شورتها الذى أراق الدم فى مصر وفى أفغانستان، وببساطة إزهاق الأرواح كان متعته التى لا يعرف غيرها، قتل رفاعة طه ولم يكمل مهمته بتوحيد القتلة فى سوريا، ونعاه القاتل الإرهابى عاصم عبدالماجد فهو ينعى رفيق جرائمه بقلب مفطور متوعدا ومهددا أن آلة القتل فى أياديهم وعقولهم لن تنكسر، ويبقى السؤال: هل مع هؤلاء القتلة يمكن الاستجابة لمن يدعون للمصالحة؟.
هواء نقى هو موجود ومع ذلك لا نلتقى به إلا مصادفة رغم حقنا فيه كما حقنا فى بعض من الأمل فى أن تنزاح ولو قليلا تلك الصور أو الوقائع التى تحتل الأيام وتتلاحق بلا هوادة وأحيانا بلا رحمة، ولكن كيف وفى نفس النهار يأتى خبر رحيل الشاعر التونسى «محمد الصغير أولاد أحمد» الذى انحاز فى شعره لقيم الحق والخير والجمال والعدل والحرية، الذى انحاز إلى شعبه فى كفاحه ضد الاستبداد والفساد، ورغم فجاعة الرحيل ووجعه لا يحترم إخوان بلاده الذين فقدوا القدرة على تمثل القيم الأخلاقية، إخوان تونس الذين يعايرنا بهم وبرقيهم كتاب ومفكرون، بكونهم أكثر ثقافة وتطورا من إخوان مصر، فما رأى من يعايروننا فى إعلان الفرح والشماتة فى رحيله، فهل هناك فرق بينهم وبين إخوان مصر؟ سؤال لا مجال للإجابة عنه.
هواء نقى قد يجعل الحياة أجمل أو أقل سوءا، هواء نقى قادتنى الخطوات إليه فى ساعات الصباح الأولى فى شارع أحمد عرابى فى وسط العاصمة، ونفس المصادفة هى التى دفعت الأقدام للسير فى اتجاه الصوت القادم من بعيد، صوت يحمل داخله معنى الحب والعمر والسنوات والحلم، مصادفة تسير معها الأقدام خلف الصوت، إنه الصوت القادم من المقهى المفتوح فى هذه الساعات من الصباح، هو المقهى القديم، مقهى أم كلثوم الشهير الذى يحتفظ برائحة كل من عرفهم فى سنوات العمر التى سبقت تلك السنوات التى نحياها، الجدران تنطق بصوت أم كلثوم، مقاعد أمام المقهى تحفظ لمسة أصابع الزبون القديم الذى غاب وأعادته المصادفة، مصادفة ليست محسوبة تحمل تعب العمر وابتعاد الفرح فى زحمة الحياة وعلى مقعد فى المقهى يعرف كل جالس ترتيب مواعيد الأغنيات ومتى سينطلق لحن السنباطى وبعده بليغ حمدى ثم هذا الوقت هو وقت ألحان عبدالوهاب، ومع مرور الساعات يأتى وقت زكريا أحمد ثم القصبجى، تحملهم بصوتها المتفرد أم كلثوم، فما زال المقهى يحتفظ بذكريات سنوات أعمار كل من جلس عليه حقا قد يصل إليها من يعرفها فى هذه الأيام مصادفة ولكن ألا تستحق الحياة ونستحق نحن أيضا أن نصنع المصادفة ونسير بكامل إرادتنا إلى أماكن عرفناها تحمل رائحة أيامنا التى كانت يوما مسكونة بالأحلام؟.