السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

علم النفس الاقتصادي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تمر بلادنا بأزمة اقتصادية، وثمة العديد من آراء أهل التخصص فى الأمور المالية والاقتصادية، عن كيفية مواجهة هذه الأزمة؛ وقد يبدو للوهلة الأولى أن حديث متخصص فى علم النفس السياسى فى هذا المجال مجرد تطفل لا مكان له؛ وقد يظن البعض أنه سيقرأ حديثًا سطحيًا عن تخطيط علمي ـ نفسى لتلك الحملات طيبة المقاصد التى شاهدناها مرارًا بالصوت والصورة والموسيقى تتغنى بحب مصر، وتدعو للتبرع من أجل إقالة البلاد من عثرتها.
الأمر بعيد عن ذلك تماما؛ فسوف يظل للاقتصاد خصوصيته العلمية ورجاله المتخصصون؛ ولكنهم أشبه بطبيب نطاسى يشخص المرض كأدق ما يكون التشخيص، ويكتب العلاج مبينًا فوائده والمدة المطلوبة لكى يتم الشفاء والآثار الجانبية المؤقتة للدواء؛ وقد يتوفر لتلك الوصفة العلمية الصحيحة حكومة قوية تبادر بسن القوانين اللازمة لتنفيذ تلك الخطة، معلنة بكل الشفافية طبيعة الآثار الجانبية المؤقتة لتطبيق الخطة وحجم الفوائد المتوقعة إذا ما تم الالتزام بتفاصيلها.
ترى هل يمكن أن نتصور بذلك أن المشكلة فى طريقها للحل؟ ترى ماذا لو ظن المريض أن الطبيب يخدعه، وأن له غرضًا خبيثًا فى نصحه بهذا العلاج، فمضى لا يلوى على شيء ممعنًا فيما هو معتاد عليه مقاومًا لتعديله؟
قد يحتج البعض بأن الأمر ليس كذلك تمامًا؛ فليس للطبيب سلطة ملزمة للمريض؛ أما الحكومة فلها أدواتها الملزمة لإجبار المواطنين على الالتزام. وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكنه يمثل تكلفة إضافية على كاهل اقتصاد منهك؛ فسوف يكون على السلطة أن تخصص جهدًا ووقتًا ومالًا لقمع معارضى سياستها الاقتصادية «الرشيدة»؛ ولا أحد يستطيع التنبؤ بمسار الأحداث فى هذه الحالة التى قد تتحول إلى كارثة حقيقية.
لقد أرجع فرانسيس فوكوياما ـ المفكر الأمريكى اليابانى الأصل ـ التفوق الاقتصادى اليابانى إلى عنصر الثقة الذى يؤدى إلى سرعة إتمام الاتفاقات وتوفير جزء من الوقت الذى يضيع فى الكثير من الإجراءات، وكذلك المال الذى ينفق على مكاتب المحاماة، كما أرجع ضخامة حجم الاقتصاد الأمريكى إلى اعتماد الأمريكيين بشكل واسع على الجمعيات والمنظمات والشبكات، مما يؤدى إلى فاعلية كبيرة، وكلها لا يمكن أن تقوم إلا فى وجود درجة عالية من الثقة فى الآخرين وفى المجتمع بوجه عام.
وتعرف الثقة على أنها اعتقاد فردى ورغبة حقيقية فى التصرف، بناء على كلمات وأفعال وقرارات الطرف الآخر؛ وهو أمر لا يمكن أن يتحقق بقرارات سلطوية ولا بمجرد حملات دعوية، بل عبر سلسلة من الإجراءات تعرف بإجراءات بناء الثقة، وتبدأ باعتراف السلطة بحاجتها لثقة المواطنين بقراراتها ودعوتهم لاختبار تلك الثقة؛ والصبر على اختباراتهم لمصداقيتها.
لقد قرأت منذ سنوات عن انهيار أحد البنوك نتيجة انتشار شائعة غير حقيقية، مؤداها أن البنك يوشك أن يفلس مما دفع إلى انهيار ثقة المودعين واندفاعهم فى وقت واحد لاسترداد أموالهم، وتذكرت أنى فى مقتبل حياتى العملية اقتربت من تجربة اقتصادية كانت تحمل اسم «بنك القرية» كانت تقوم على تشجيع الفلاحين آنذاك على التعامل مع البنوك؛ وبعد سلسلة من اللقاءات والمناقشات وعرض تفسيرات تخطى حاجز الأمية وأنه لا أحد سيسألك عن مصدر مالك وأنك تستطيع استرداده فورًا بل والاقتراض من البنك أيضًا؛ بدأ افتتاح البنك الأول. وبدأ الفلاحون بدأب وتوجس عمليات طويلة لاختبار الثقة، كأن يودع أحدهم مبلغًا صغيرًا، ثم يعود بعد سويعات لاسترداده لمجرد التأكد من صدق ما سمعه.
لا أعرف إلى أين انتهت تلك التجربة، ولكن بقى الدرس المستفاد منها ماثلًا. الخطط الاقتصادية تتحول إلى واقع من خلال ملايين القرارات التى يتخذها الأفراد؛ والسؤال الجوهرى هو: ما آليات توفير الثقة لدى الأفراد للقبول باتخاذ قرارات اقتصادية معينة؟
لقد حصل هربرت سيمون Herbert A. Simon على جائزة فى الاقتصاد تعادل جائزة نوبل عام ١٩٧٨، لدراسته الرائدة فى مجال آليات اتخاذ القرار فى ظل نقص المعلومات المتاحة، وكانت الجائزة عام ٢٠٠٢ من نصيب الأمريكيين فيرنون سميث Vernon Smith عالم الاقتصاد ودانيال كانيمان Daniel Kahneman عالم النفس، تقديرًا لهما على أبحاثهما فى مجال آليات اتخاذ القرار أيضًا. لقد توصلا إلى حقيقة أن البشر كثيرًا ما يعجزون عن التوصل إلى تحليل شامل متخصص لمكونات المواقف الاقتصادية التى تتطلب منهم اتخاذ قرارات معقدة، فيلجأون عوضًا عن التحليل المنطقى إلى اتخاذ قراراتهم، اعتمادًا على عوامل لم يكن الاقتصاديون التقليديون يضعونها فى اعتبارهم، كالعدالة والخوف من الخسارة والأحداث التى سبق أن تعرض لها الفرد.
إن ثمة فرعًا قائمًا بذاته من فروع علم النفس هو «علم النفس الاقتصادى» الذى يدرس الآليات النفسية التى تحكم السلوك الاستهلاكى وغيره من أنواع السلوك الاقتصادي؛ كما يهتم بدراسة الاختيارات والقرارات والعوامل المؤثرة فى هذا المجال، وتحليل أنماط السلوك الاقتصادى الجمعى بدءًا من المستوى الأسرى إلى المستوى القومى، وكذلك ارتباط السلوك الاقتصادى بظواهر التضخم والبطالة ونظام الضرائب والتنمية الاقتصادية، وتأثير اتخاذ قرارات اقتصادية معينة على السلوك البشرى وعلى نوعية الحياة.
ترى هل من وقت لدينا لمحاولة بناء الثقة بين أصحاب القرار والجماهير فى ضوء حقائق العلم؟.