الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

على أبواب الصيف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نحن على أبواب الصيف تذكرت كما أتذكر مع كل تغير فى الفصول مسألة الزى والأزياء. وهل فعلا هناك علاقة بين الأزياء والدين أم هى بنت المكان والزمان. وهنا أتوقف عند الجلابية والطرحة فأقول ليس هناك عيب لا فى الجلابية ولا فى الطرحة. كل منهما كانت ملابس أهلنا فى الريف ولا تزال. هذا تراث جميل لا يخجل منه أحد. لكنه تراث مرتبط بالمكان والمناخ والعمل. وحين كانت الزراعة هى العمل الوحيد كان هذا هو الزى الوحيد خاصة أن بلادنا حارة فى معظم العام. كان الرجال أيضا يرتدون الجلابيب يخرجون بها إلى الحقول وما إن يصلوا حتى يخلعوها ليعملوا بالملابس الداخلية الطويلة التى تمتص العرق ولا تتلوث كما يمكن أن يتلوث الجلباب الذى هو عادة من نسيج أغلى. فى البيت يرتدى الفلاح أيضا الجلباب الخفيف أو يتخفف من ملابسه حسب الجو والحالة المادية، كما يرتدى الجلابية الفاخرة من الصوف فى المناسبات أو السهرات (البنش) وهى بالمناسبة كلمة تركية. أصحاب الحرف كانوا لا يفعلون ذلك. كانت لهم ملابسهم التى تتناسب مع حرفهم. لم يكن مناسبا مثلا لمقلّم النخيل أو حفار القنوات أو البنّاء أن يرتدى الجلباب. فضلا عن الصيادين والنجارين والحدادين وكثير من أهل الحرف فيما بعد. الزى مرتبط بالعمل ونوعه كما هو مرتبط بالمناخ ويتغير كما تتغير الأعمال والأزمنة. كذلك يمكن اكتساب أشكال أخرى منه كما اكتسب المصريون الطربوش التركى والبدلة الأوروبية، وكما يكتسبون الان الملابس الكاجوال على الأقل بالنسبة للشباب ولكن هذا الاكتساب كله مرهون بالمظهر والفائدة الدنيوية فى مواجهة العمل أو الطبيعة أو الحياة الاجتماعية، ففى العمل لا يجب أن يسبب الزى مشكلة فليس معقولا أن يقف العامل أمام المخرطة مثلا بالجلباب ستسحبه المخرطة وتأكله فى لحظة غفلة، وليس معقولا أن يصعد الكهربائى أعمدة الإنارة بالجلباب وليس معقولا أن يرتدى الجلباب جندى على الجبهة أو طيار أو غطاس، كما أنه ليس معقولا أن يرتدى الرجل أو المرأة بالطو فى الصيف أو يرتدى ملابس خفيفة فى الشتاء. أقول هذا الكلام لأوضح الفكرة البسيطة جدا التى لا تحتاج إلى إيضاح أو برهان والتى عرفها الناس كل الناس بالفطرة منذ أن كانوا عراة ووضعوا أوراق الشجر ليخفوا عوراتهم ثم لفحهم الحر فارتدوا الملبس الخفيف أو لسعهم البرد فارتدوا الوبر. وبينما هم يبحثون عما يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء اكتشفوا صناعة النسيج واكتشفوا النباتات التى يستخدمونها قطنا أو حريرا أو صوفا أو كتانا، وبعد ذلك كله أدركوا أن الزى ليس للعمل أو وقاية من المناخ فقط ولكن للمناسبات، فبحثوا عن الأناقة وتفننوا فيها. من المؤكد أن أى شخص سيهرب من محل الملابس إذا اكتشف أن باعته يرتدون ملابس رثة ومن أى بائع رث الثياب. ثم صار الزى بعد ذلك مدخلا للقبول الاجتماعى ومدخلا للعلاقات العاطفية فى البيوت وخارجها، وفى كل الأحوال ظل الزى مناسبا للعمل والمناخ. نسينا هذا كله للأسف واكتشفنا فجأة أن الزى مظهر دينى رغم أننا وغيرنا نعرف أن ذلك صحيح بالنسبة لرجال الدين فقط لأن هذا عملهم الوحيد ثم إن لهم احتراما خاصا لذلك لابد أن يتميزوا بزيهم عن غيرهم بالزى كمظهر أول. وهم حين يفعلون ذلك حافظوا دائما على علاقة الزى بالمناخ فلم تكن ملابسهم فى الشتاء خفيفة ولا فى الصيف ثقيلة وفى كل الأحوال يتميز زيهم بالوقار المناسب لرجل دين فضلا عما فى الزى من رموز للديانة نفسها فى كثير من الأحوال. وهنا أيضا تظهر علاقة الزى بالعمل. نسينا هذا كله رغم أننا مارسناه على طول التاريخ. ألحقنا الزى بالدين ثم اعتبرنا أن ما يلبسه أهل الجزيرة العربية هو الزى الإسلامى رغم أنه زى المناخ الحار الصحراوى الذى توارثته القبائل منذ قبل الإسلام وزدنا على ذلك فاعتبرنا الزى الأفغانى هو زى الإسلام أيضا رغم أنه موجود هناك قبل أن يصل الإسلام إلى بلادهم وهو أيضا زى خاص بالقبائل الأفغانية والطبيعة الأفغانية، ثم زدنا على ذلك واعتبرنا الزى الفارسى هو زى الإسلام رغم أنه ينطبق عليه ما انطبق على بقية الأزياء. لن أزيد على هذا وأتحدث عن تطور الأزياء مع تطور المجتمعات ولا عن السمة العالمية لهذا التطور التى تجعل بيوت الأزياء تتبارى فى الموديلات التى لها عنوان واحد فقط هو الأناقة والمناخ، أزياء للشتاء والربيع والصيف والخريف، ثم بعد ذلك تدخل العوامل الأخرى التى أشرنا إليها سابقا. هل كنا فى حاجة إلى هذا الحديث ؟ هى أشياء بدهية لكن للأسف نضطر إلى إعادتها فى بلد أصيب بهوس إرجاع كل شىء إلى الدين وكأن الناس قبل ظهور الإسلام كانوا عراة. و«كل صيف وانتم طيبين»، والله المستعان.