الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

.. والتاريخ لا يشترى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عقب الإعلان عن بيع التمثال المصرى «سخم كا» قامت فى لندن مظاهرات رفعت شعار «التاريخ ليس للبيع»، وبكل تأكيد نضيف أن «التاريخ لا يشترى». لا يستطيع أحد، فردًا كان أو شعبًا أو دولة، أن يشترى لنفسه تاريخا فحروف التاريخ تكتبها الشعوب على أرض بلادها، ولا يقدر شعب أيا كانت حدود ثرائه، أو ثراء بعض أفراده أن يشترى لنفسه تاريخا وأصلا ينتسب إليهما.
كتب الشعب المصرى منذ أكثر من سبعة آلاف سنة التاريخ، كتبه وأبدع آثاره التى تخلد عظمته منذ أشرق فجر الضمير على ضفاف نهره العظيم. «التاريخ لا يشترى» حقيقة لم يدركها ذلك القطرى الذى اشترى –كما نشرت الصحف- التمثال المصرى «سخم كا». ومعنى اسمه «قوى الروح» وهو كبير كتبة بناة الأهرام. ويصل عمر التمثال لنحو أربعة آلاف عام. اكتشف التمثال فى حفائر سقارة بالجيزة عام ١٨٥٠، وخرج من مصر فى ذلك الوقت إلى إنجلترا، وربما أو فى الغالب خرج بطريقة شرعية ففى ذلك الوقت لم تكن قوانين حماية الآثار وتجريم تهربيها أو بيعها قد وضعت.
عاش التمثال المصرى البديع فى إنجلترا منذ ذلك الوقت حتى قررت إدارة المتحف الذى استقر به التمثال أن تبيعه، فى سلوك لم تعرفه الدول المتحضرة من قبل. ولا نعرف تفسيرا لبيع تمثال بهذه القيمة أيا كان الثمن الذى سيدفع فيه، ومن الذى يبيع؟ دولة المفروض أنها دولة عريقة تقدر قيمة وعواقب ما تقدم عليه، بداية من انتهاك اتفاقية اليونسكو التى تنص إحدى موادها على منع الاتجار بالآثار، ونهاية بالعار الذى يصيب أى دولة تبيع أثرا بهذه القيمة.
وكما سبق أن ذكرنا احتج مثقفو إنجلترا على بيع التمثال، رافعين شعار «التاريخ ليس للبيع» ولكن بلادهم وكما نشرت الصحف مؤخرا باعت التاريخ وقضى الأمر. فقد تم بيع التمثال كما يرجح لثرى قطرى دفع ثمنا له ١٦ مليون جنيه إسترلينى - وياله من ثمن بخس- فالتمثال بحق تحفة فنية كما هو معلوم بالضرورة عن الآثار المصرية المعجزة. وككل آثارنا يمتاز التمثال بدقة فى النحت بإبراز جمال التفاصيل بنعومة كأن الحجر تحول بين يدى النحات إلى «قطعة من الدانتيل». أيضا يمتاز التمثال بالنسب والمقاييس بين الأجزاء المكونة له وهى نسب ومقاييس لا تقبل الاهتزاز فى هذا التمثال ولا فى غيره من تماثيل الفراعين العظماء. لم يغفل النحات العظيم ما كان مستقرا ومعروفا فى المظهر. الشعر المستعار، الملابس، الحزام المضفر حول الخصر. ومن حيث تكوين الجسد تظهر العضلات والعظام حتى أصابع القدم والأظافر، وبين يديه مجسم لورقة بردى عليها كتابة بالهيروغليفية وعلى جوانب التمثال نقشت عبارات هيروغليفية ونقوش تبين موكبا احتفاليا يضم مجموعة من الرجال يحملون البط والإوز وزهور اللوتس والبخور.
مرافق للتمثال وبجانبه تماما تمثال صغير لزوجة «سخم كا»، وهى تضع كفها بنعومة على إحدى قدميه، تحمل نظرتها اطمئنانا وسعادة بابتسامة زوجها الرائقة. أصابعها منسابة كأنها أصابع عازفة بيانو. نكرر أن التمثال هو تمثال فرعونى لكاتب مصرى قديم أبدعته يد نحات مصرى، ويعنى هذا أن التمثال سيظل حتى آخر الدهر مصريا. حتى لو دفع فيه من اشتراه مال الدنيا كلها. سيظل التمثال مصريا والحروف المنقوشة عليه هى حروف الكتابة المصرية، وهى نفس الحروف المكتوب بها التاريخ على أحد أوجه حجر رشيد الموجود فى لندن منذ نحو قرنين من الزمان، ومهما طالت السنون فالحجر سيظل مصريا.
إذًا سيظل تمثال الكاتب «سخم كا» تمثالا مصريا خالصا ووجوده فى حوزة أى فرد أو أى بلد لن يصنع لا للفرد الذى اشتراه ولا للبلد الذى يوجد على أرضه تاريخا عظيما. فسيظل التمثال باسمه الذى يعرض به ويقدم لكل من يراه تمثالا مصريا اشتراه ثرى ليشترى معه فخرا ربما هو مصدر فخره الوحيد، وسيظل مصدرا للعار لمن فرط فيه وباعه. خرج التمثال من مصر وغاب عنها وانتقل إلى بلد آخر إلا أنه سيظل تمثالا مصريا الآن وللأبد.