الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بوابة العرب

تهنئة للانتهازيين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حلت أمس في السابع من أبريل ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي على يد مسيحي سوري هو ميتشيل عفلق. ورغم السقوط المدوي لتجربة حزب البعث في العراق وسوريا، إلا أن الكثير ممن صفقوا لحزب البعث وطبلوا له غيروا جلودهم بسرعة البرق عند سقوط بغداد في ٩ أبريل ٢٠٠٣، أي بعد ٤٨ ساعة فقط من انتهاء حكم الحزب الواحد، وبسرعة مشهودة رأيناهم يتقدمون الجموع لتهنئة الأمريكان على غزو العراق، لا بل ظلوا يدافعون عن هذا الاحتلال بأنه ( تحرير ) وليس احتلال، في الوقت الذي كان فيه الأمريكان أنفسهم يصفون وجودهم في العراق بأنه احتلال. وظل الناس في حيرة من أمرهم حيال هولاء.
والواقع أن هذه الفئة من الانتهازيين والمتلونين كالحرباء إنما يغيرون جلودهم بسرعة عجيبة. وقد وجدت هذه الفئة منذ زمن الخلافة الإسلامية الراشدة، فكان احدهم يبايع لأكثر من شخص واحد، ويتنقل في بيعته من واحد لآخر، ويتنصل من بيعة سابقة له لأحدهم، ليبايع شخصا آخر. ومن المعروف أن مايدفعهم لذلك هو مصالحهم الشخصية الضيقة وإنانيتهم. والانتهازية في مفهومها الاصطلاحي التي نعنيها هي اغتنام الفرصة واستثمارها من أجل أهداف شيطانية أو منطلقات محدودة ضيقة الأفق لا تخرج عن إطار المنفعة الذاتية القصيرة الأمد، ولا يخفى أن الانتهازية والنفاق وجهان لعملة واحدة، فالانتهازي يضمر من وراء تظاهره بالصلاح أو التملق مصلحته الذاتية غير المشروعة والإبقاء عليها بإتباعه أساليب تتلون بألوانها وتتفصل على مقاساتها. كذالك المنافق يخفي في نفاقه ألوانًا من التآمر والأفكار المنحرفة في منهجية مدروسة ويتغلغل بين صفوف المبدئيين والمخلصين مظهرًا ولائه وايمانه متحينًا للفرص من أجل القضاء على المشروع وقيمه ومبادئه وكيانه القائم. فالانتهازية رأي لا أصالة له، ولا يرتكز على أرضية صلبة، وإنما يتحول ويتبدل ويدور مع الريح أينما دارت ولا يقر له قرار. وكما وصفهم على بن ابي طالب ع بقوله: يدرورون اينما دارت مآربهم. لذلك كله نجد أن الانتهازية سببت في مجتمعنا انعكاسات خطيرة وخاصة في الظروف الحرجة التي مرّ ويمر بها، وقد كانت هذه الفئة سبب بلاء هذه الأمة الإسلامية ثم العربية، وسببا للانقسامات الخطيرة التي شهدتها المجتمعات الإسلامية والعربية وسببا في ظهور مذاهب مختلفة، مازالت تعاني من انقساماتها. وكانت هذه الفئة سببا في مقتل الحسين بن على في عاشوراء بعد أن كتبوا له يبايعونه وتخلوا عنه بعد أيام قليلة فقط، وكانوا سببا في واقعة كربلاءعام 61 ه.
ومن سمات الانتهازي الكذب على نفسه وعلى المجتمع وعلى الله، إذ نجد الكذب قد استشرى في وجود الانتهازي فاحاطه وتغلغل في كل خلاياه لا يجد منه مهربًا فاصبح جزءًا من ذاته لا يعرف بغيره.
وبما أن الكذب رأس كل الخطايا فإن سائر الصفات السلبية الأخرى التي نراها في سلوك الانتهازيين المنافقين إنما هي نتاج طبيعي لصفة الكذب التي تستولي على كيان وروح الانتهازيين المنافقين.
ومن تلك الصفات الغدر الذي يعتبره الانتهازيون كيسا وذكاء وشطارة، مزيفين بذلك الحق لينسبهم أهل الجهل إلى حسن الحيلة والتدبير الجيد، وهي قراءة للمفاهيم والقيم بصورة مقلوبة، وهذا هو مركز الخطر الحقيقي الذي تزرعه الروح الانتهازية في المجتمع ومنها تنشأ جميع السلبيات والمفاهيم المشوهة التي يصبح معها المعروف منكرًا والمنكر معروفًا. ومن صفاتهم الكثيرة التخاذل، والاحتيال، والذلة، والجبن، والخوف على الحياة ولذائذها، وسلاطة اللسان. هؤلاء هم الانتهازيون وتلك بعضا من نماذجهم وصفاتهم وسلوكياتهم التي تشكل خطرا داهما على المجتمع وفي جميع الأصعدة.
وارجو أن لايذهب ذهن القارىء العزيز إلى أن الجميع خونة، فالتعميم آفة الحديث. ففي المجتمع أناس مبدئيون لايغيرون قناعاتهم الصادقة بكل كنوز الأرض ومهما علت الخطوب والمصائب. وقد وصف القرآن الكريم هذه الفئة الصادقة أحسن وصف بقوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
وفي العراق رأينا الرفاق في حزب البعث يتحولون إلى آبناء العم سام في لمح البصر. وأن مجتمعنا اليوم وكما كان بالأمس مبتلى بهذه النوعية من الناس الذين يمثلون دائما الخطوط المائلة التي تسعى إلى الوصول إلى أهدافها قاطعة الخط المستقيم الذي عليه المجتمع من إرث ثقافي وديني، مظهرين غير ما في قلوبهم المريضة وليس فيها إلا الغدر والخداع والمصلحة الرخيصة التي تُملي عليهم مسايرة الوضع القائم مهما تقاطع مع مايدعونه من معتقد، وكثيرا ما يتحينون الفرص للوقيعة بالمخلصين للحصول على الامتيازات بأسهل الطرق لأنهم ليس لديهم أي استعداد للتضحية. ومن ثقافة الانتهازيين والنفعيين كيل الاتهامات جزافًا، وتشويه سمعة المخلصين من أصحاب المبادئ الشرفاء، من أجل خلق أجواء معتمة وغائمة وتعكير المياه ليتسنى لهم التصيد فيها بسهولة وليضمنوا استمرار رزقهم القائم على هذه التجارة. والعجيب أن أول تهمة يتهمون بها هولاء لخصومهم هو الانتماء للبعث، وقد ذهب الكثيرون ضحية هذا الاتهام الباطل فاذاقوا الناس الامرين، وكان كل واحد منهم سببا في كارثة ماحقة، فالقادة العسكريين منهم كانوا سببا في سقوط محافظة الموصل بيد داعش صيف عام ٢٠١٤ وهكذا فعل الآخرون كل في مجال عمله، ومازال الكثير منهم أعضاء فاعلين في القيادة العراقية، وتزخر صفحات الانترنيت باسماء كثيرة من هذه الفئة في كل مفاصل الدولة كالبرلمان والمحكمة العليا ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع. والقائمة تطول ويمكن لكل شخص أن يضيف من يعرفهم من امثال هولاء.
لذا ليس غريبا أن نجد هولاء ينقلبون على الأمريكان أيضا بانتفاء مصلحتهم، وقبل سنتين استمعت إلى محاضرة القاها الوكيل السابق لوزارة الخارجية محمد الحاج حمود في معهد الخدمة الخارجية التابع للوزارة، قائلا: إن الأمريكان سبب خراب العراق، وانا لم أعد اخشى شيئا فأنا بايع مخلص، وأن الأمريكان هم من شجعوا الناس على سرقة مؤسسات الدولة بقولهم: كمان على بابا Come in Ali baba".
ونسي أو تناسى أنه قبل سنة كان يقول بالإنجليزيّة للوفود: نحن والأمريكان هبايب Habaieb.
وقد ظلّ الأتراك يرددون بمرارة عام ١٩١٤ وحتى الآن عبارة "عرب خاين" بعد إعلان الشريف الحسين بن على الثورة العربية الكبرى في الحجاز. ولهذا وصف السياسي البريطاني الشهير ونستون تشرشل العرب بأمة الخيانة، عندما قال إذا سقط العرب سقطت الخيانة من العالم. واعتقد جازما أنه لو عاد حزب البعث للسلطة في العراق لكان هولاء وامثالهم السباقين للانظمام له، وربما ادعوا بأنهم كانوا بعثيين قبل ميتشيل عفلق.
لذا يحق تهنئة كل هولاء الانتهازيين والمتلونين على خراب بلدانهم ومجتمعاتهم.
وهنا لا يسعنا إلا إن نردد ما قاله الشاعر: إنما الأمم الأخلاق مابقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
* د/ رياض السندي عراقي مقيم في سويسرا، دكتوراه في القانون الدولي، محام، أستاذ جامعي، دبلوماسي سابق.