رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العالم المتخصص وقضايا المجتمع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ثمة نماذج عديدة لعلماء متخصصين امتد اهتمامهم إلى ما هو خارج حدود تخصصهم، إلى مشكلات وقضايا المجتمع الذى يعيشون فيه، فأسهموا وما زال بعضهم يسهم بالفعل فى مواجهة تلك المشكلات والتصدى لحلها، البعض من هؤلاء العلماء حاول تفسير ما يجرى فى مجتمعاتهم وفى العالم من خلال المناهج السائدة فى تخصصاتهم؛ ولعله على رأس من سعوا إلى ذلك أصحاب مدرسة التحليل النفسى، التى تصدت لتفسير قضايا الحرب والحب والحضارة والعلاقات الأسرية إلى آخره من خلال منهج التحليل النفسى.
ولكن كان ثمة موقف مختلف يجمع بين عدد من العلماء المتخصصين أحسوا أن عليهم اتخاذ موقف محدد مما يجرى حولهم، واتخذوا بالفعل ذلك الموقف والتزموا به، دون محاولة فرض معطيات كأساس لتفسير نهائى للمشكلة التى يتخذون موقفًا حيالها، وكانت مواقفهم أقرب إلى أن تكون مواقف عملية مباشرة لا تقف عند حدود التنظير، وإن كانت تنطلق من موقف فكرى وأخلاقى عام، كأن يتخذ رجل العلم المتخصص موقفًا مؤيدًا عمليا لقضية السلام على المستوى الأخلاقى والفكرى مثلا، ومن ثم يلتزم موقفًا عمليًا ضد حرب عدوانية معينة، وفى هذه الحالة لا تكون مهمته تقديم تفسير محدد لأسباب الحروب عامة، ولا حتى للأسباب الخاصة التى أدت إلى وقوع تلك الحرب بالذات، بل يكفيه قبول وتبنى التفسير الأكثر اتفاقًا مع منطلقه الأخلاقى والفكرى، والذى تقع مهمة تقييمه على عاتق غيره من ذوى التخصص فى هذا الباب. ولا يعنى ذلك سلبية كاملة يركن إليها رجل العلم، فقبوله وتنبيهه لوجهة نظر تفسيرية معينة، إنما يتم غالبًا على أساس من التحليل النقدى المنطقى لمختلف وجهات النظر المطروحة التى تتسق جميعًا بدرجات متفاوتة مع منطلقه الفكرى والأخلاقى.
ومن أبرز النماذج لمن اتخذوا ذلك الموقف من العلماء المتخصصين سوف نختار نموذجين من مجالين علميين مختلفين: النموذج الأول هو الدكتور أوبنهايمر العالم الذرى الشهير الذى أسهمت بحوثه بشكل فعال مباشر فى اختراع القنبلة الذرية، لقد خرج أوبنهايمر من صومعة تخصصه ملقيًا بكل ثقله العلمى إلى جانب الدفاع عن السلام والمطالبة باستخدام ما ساهم هو شخصيًا فى اختراعه استخدامًا لا يرضى عنه، ولعلنا نسرف فى التعسف لو توقعنا من أوبنهايمر أن يقدم لنا تخيلًا متعمقًا لطبيعة القوى العدوانية، وطبيعة الصراع ومستقبله، يكفينا أن يحدد أوبنهايمر موقفه من الصراع الاجتماعى الدائر فى مجتمعه، ليدين الجانب الذى يراه مستحقًا للإدانة ويؤيد الجانب الذى يراه جديرًا بالتأييد.
ونموذجنا الثانى هو الدكتور سبوك طبيب الأطفال الأمريكى المتخصص، وصاحب الكتابات الطبية المتخصصة فى هذا المجال، والذى أصبح إلى جانب تخصصه من أبرز الشخصيات القيادية فى الحركة المعادية للتدخل العسكرى الأمريكى فى فيتنام.
وهذان النموذجان ليسا سوى مثالين لموقف محدد يتخذه علماء متخصصون بل وبارزون فى تخصصاتهم من قضايا اجتماعية معاصرة تشد انتباههم.
ويتميز مثل هؤلاء العلماء بأنهم لا يفرضون الرؤية التى تمليها عليهم تخصصاتهم على تفسيرهم للمشاكل الاجتماعية التى يتخذون منها موقفًا، هذا إذا أقدموا أصلًا على طرح مثل ذلك التفسير، فدكتور سبوك مثلًا لم يحاول أن يفسر العدوان الأمريكى العسكرى على فيتنام بأنه يرجع إلى أمراض تصيب الأمريكيين فى طفولتهم، وتدفعهم عند الرشد إلى ما يقومون به من أعمال وحشية، وأن الوقوف فى وجه العدوان الأمريكى فى فيتنام يتطلب معالجة تلك الأمراض والقضاء عليها، ولو تصورنا جدلًا أن الدكتور سموك قد اتخذ مثل هذا الموقف بالفعل لما أمكننا فى البداية على الأقل أن نقلل من تقدميته كمعاد للعدوان الأمريكى على فيتنام وكمصير للسلام بوجه عام، ولكن موقفه حينئذ سوف يكون أقل فعالية بكثير من الناحية العملية على الأقل من موقفه الحالى، بل إنه قد يؤدى إلى النكوص حتى عن إيجابيته، عائدًا إلى معمله ليعد الأمصال القاضية على أمراض الأطفال المتسببة فى تلك المذابح، أو لعله حينئذ ينزلق إلى مهاجمة المحاولات «السطحية» لوقف العدوان الأمريكى على فيتنام، دون القضاء على جذوره الأصلية.
هناك إذن علماء متخصصون استطاعوا أن يتناولوا مشاكل العالم المعاصر، متخذين من تلك المشاكل موقفًا محددًا ينم عن التزامهم بقضايا مجتمعهم، دون أن يقعوا فى شرك أن يغريهم تخصصهم بفرض نتائجه المتخصصة -بل وقوانينه النوعية- كتفسير يقدمونه لطبيعة المشاكل التى يتخذون حيالها موقفاً.
ولو نظرنا إلى واقعنا السياسى المصرى لوجدنا العديد من تلك النماذج من الأطباء والمهندسين وعلماء النفس والاجتماع وغيرهم من أبناء التخصصات الأخرى ممن قد تتباين رؤاهم السياسية بل وتتناقض، ولكن يجمع بينهم أنهم مهمومون بالوطن، ولعلنا نستطيع الإشارة على سبيل المثال لا الحصر ومع حفظ الألقاب إلى حسام بدراوى، وخالد منتصر، والمرحوم عبدالوهاب المسيرى، ومحمد أبو الغار، وعلى فرج، وصلاح رشوان، وممدوح حمزة، ونجيب ساويرس، وتطول القائمة بما يجل عن الحصر.