رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

علم النفس وقضايا العصر "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ حوالى نصف قرن أصدر عالم النفس الشهير «أريك فروم» كتابا ذاع صيته وتجاوزت أعداد طبعاته الحد المألوف، وكان عنوانه «الهروب من الحرية». 
ولد «أريك فورم» وتعلم فى ألمانيا، حيث درس علم الاجتماع وعلم النفس فى جامعات «فرانكفورت وميونيخ وهيدلبرج» التى حصل منها على شهادة الدكتوراه عام ١٩٢٢، وقد تدرب «فروم» على التحليل النفسى الفرويدى فى جمعية التحليل النفسى ببرلين، واستوقفت «فروم» ظاهرة التفاف غالبية مواطنيه من أبناء الشعب الألمانى حول «هتلر» الدكتاتور العنصرى الذى لم يخف يوما عنصريته أو دكتاتوريته. وهاجر «فروم» من وطنه الأصلى متوجهًا صوب الولايات المتحدة الأمريكية حصن الحرية وملاذ الأحرار، ولم يمض زمن طويل وإذ به يكتشف نفس الظاهرة تفصح عن نفسها جلية فى أعماق من تعامل معهم من الأمريكيين. وتوصل «فروم» إلى أن المجتمع فى مرحلة معينة من مراحل تطوره السياسى الاجتماعى الاقتصادى يشكل أبناءه وينشئهم على النفور من الحرية، بحيث يضيقون بحريتهم أشد الضيق، ويسعون ما وسعهم الجهد لاكتشاف «البطل» الذى يتيح لهم التخلص من أغلالها، فيسارعوا إلى الالتفاف حوله والسير وراءه. 
وتدور مفاهيم «فروم» فى تحليله لطبيعة المجتمع الغربى حول فكرة أساسية هى أن هناك تناقضا يحكم الحياة النفسية لما يسميه «فروم» بالحضارة الغربية والحضارة الرأسمالية، لقد خلقت الرأسمالية فى تطورها إنسانا حكم عليه بأن يكون قليل الحيلة، خائفا، قلقا، يائسا، وحيدا، محبطا فظروف الحضارة الغربية تحول دون ممارسة الإنسان لحريته الإيجابية، وتدفع به إلى حرية سلبية، أى تدفع به إلى الهرب من الحرية، ويرى «فروم» أنه لكى يتخلص الإنسان فى الحضارة الرأسمالية من شعوره غير المحتمل بالعزلة وقلة الحيلة، أى لكى يهرب من الحرية، ليس أمامه سوى أن يتبنى لا شعوريا واحدا من عدة سبل: إما الضياع الكامل، أو السعى لتدمير العالم، أو الاستسلام دون تدبر لمعايير من يعتبرهم ممثلين للسلطة.
عالم آخر من علماء النفس الاجتماعى هو «ستانلى ميللجرام» «Stanly Milligram» الذى التقيت به شخصيا فى جامعة «نيويورك سيتى» «City» (University of New York CUNY) عام ١٩٨٣ قبيل وفاته فى العام التالى، وتحدثنا حديثا عابرا حول تجاربه الشهيرة، وكيف استوقفته بشاعة التعذيب الذى كان يمارسه الجلادون فى المعسكرات النازية الشهيرة، ودفعته إلى التساؤل: ترى كيف يمكن أن يطيع الإنسان أوامر تصدر إليه متعارضة مع كل القيم الإنسانية؟ وكم نسبة أولئك الذين يمكن أن يطيعوا مثل تلك الأوامر؟ ووجه «ميللجرام» هذا السؤال إلى عدة مئات من المثقفين والمهنيين، ومنهم العديد من المتخصصين فى علم النفس والعلوم الإنسانية فى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان متوسط تقديراتهم أن نسبة لا تتجاوز ٤٪ أو ٥٪ من الأمريكيين يمكن أن يكون لديهم الاستعداد لتنفيذ مثل تلك الأوامر. وحاول «ميللجرام» اختبار الأمر تجريبيا، سلسلة التجارب المعملية الشهيرة التى عرفت فى تاريخ علم النفس الاجتماعى باسم تجارب الطاعة، واستمرت تلك التجارب من عام ١٩٦٠ حتى عام ١٩٦٤ فى جامعة «يجل» بالولايات المتحدة الأمريكية.
كانت النتيجة صادمة بكل المقاييس، حتى إن عالم النفس «توماس بلاس» نشر عن «ميللجرام» عام ٢٠٠٢ مقالا يحمل عنوان «الرجل الذى صدم العالم». لقد كشف «ميللجرام» النقاب عن استعداد غلاب لدى الأمريكيين للطاعة وتنفيذ الأوامر حتى لو اقتضى الأمر تعذيب الآخرين، وأن هؤلاء «المتطوعين» أفراد عاديون لا يعانون من اضطرابات نفسية كالسادية مثلا، وأنهم لا يقدمون على ما أقدموا عليه تحت ضغط تهديد أو إغراء من سلطة قاهرة. إنهم مجرد متطوعين للمشاركة فى تجربة علمية لا يتقاضون مقابل تطوعهم سوى عدة دولارات فقط. 
استغرقت تجارب «ميللجرام» من ١٩٦٠ حتى ١٩٦٤ ولم تلبث أن انتشرت التجارب فى أستراليا وجنوب إفريقيا والعديد من دول أوروبا. وقد قمت بعد ذلك بالإشراف على عدد من البحوث التى أجراها أبنائى المصريون للحصول على درجاتهم العلمية، متبعين نفس أسلوب تجارب «ميللجرام»، ولم تكن النتائج لدينا تختلف كثيرا عنها فى أى مكان فى العالم، حيث تراوحت نسبة من يصلون إلى النهاية القصوى فى إطاعة الأوامر دون الإقدام على الانسحاب من التجربة بين ٦٠ و٦٦٪.
لقد أسفرت تلك التجارب عن نتيجة صادمة بكل المقاييس: ثمة «طاعة خبيثة» تسرى فى أوصال المجتمعات الحديثة، وحاول «ميللجرام» البحث عن الظروف التى تؤدى بالفرد إلى ذلك النوع من الطاعة، فصك تعبيرا يصعب ترجمته عربيا بكلمة واحدة: «AGENTIC STATE»، وهى مشتقة من مصطلح «العميل أو الوكيل أو الممثل أو المندوب- AGENT»، بمعنى أن الفرد يدرك نفسه باعتباره مجرد كائن ضعيف لا يعدو إلا أن يكون ممثلا أو تابعا لآخر أو لآخرين أو لمؤسسة أو حتى لقوة معنوية غير منظورة، وأنه فى هذا الموقف يتنازل تماما عن حريته فى اتخاذ قرارات مستقلة، وبالتالى لا يتحمل أي مسئولية عن أفعاله أو حتى أفكاره. المسئولية يتحملها من يصدر له الأوامر.
ولعلنا لو اقتربنا قليلا من شعارات الدعوة للحرية فى بلادنا ولدى غيرنا أيضا، لاكتشفنا أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة «ولكن»، نحن مع الحرية طبعا، ولكن لا حرية لأعداء الشعب، كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة، ولكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة، كل الحرية لأنصار التقدم، ولكن لا حرية للرجعيين أنصار التخلف، الحرية كل الحرية للمتدينين الطيبين المتمسكين بأوامر الله، ولا حرية لغيرهم من الكفرة والمنحلين، وحتى داخل التيارات الليبرالية تجد من يقول كل الحرية لأنصار الحرية، ولكن لا حرية لأعدائها من أنصار الحكم المطلق، أى أنهم يطلبون الحرية لمن يتمتعون بها فعلا، ويضنون بها على من يتوقون إليها.