الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مطاردة الفراغ.. عن نفسي وأشياء أخرى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أحيانًا يسيطر عليها إحساس كبير بالفراغ، ليس فراغًا محيطًا بها بل فراغ داخلى عقلى، لا تستطيع كنهه أو تحديد أبعاده لكنها تتصوره صحراء بيضاء شاسعة تخفى أى عاطفة أو انفعال أو أفكار وهى تتصورها صحراء لأنها كثيرًا ما دخلتها، وحاولت أن تبحث فيها عن مخرج لها أو نقطة ضوء أو طرف خيط تستدل به للخروج من فراغها فلا تستطيع، كما لو أنها لم تفكر أبدًا فى شيء، لم تكتب أبدا شيء، لم تشعر أبدًا بشيء.
تتكرر هذه الحالة مرات، مما أكسبها بعضًا من خبرة وهى تجتاز مفازتها العقلية.. حيث يكون لا رد فعل لها على شيء سواء بالحزن أو الفرح وتتساقط ذكرياتها الحلوة والمرة، بل أنها لا تتذكر أن هناك ذاكرة يمكن أن تستدعى منها أشياء مفرحة أو مخزية.. تمنحها حسًا ما.. لا شيء لا شيء.. ليس معنى ذلك أنها تفقد الذاكرة كليًا.. أبدًا هى تتذكر كل الأفعال والكلمات والمواقف والأشخاص، وتتعامل عادى جدا مع زوجها وابنتها وزملائها فى العمل، لكنها فى هذه الأوقات تتعامل من الخارج فقط فلا تتعاطف أو تسخط أو تغضب أو تفرح، فى هذه اللحظات تكون بلا روح.. وتكون جدباء غير منتجة لأى معنى أو دلالة عامة أو خاصة.. ومن ثم فهى لا تستطيع الكتابة فى هذه الأوقات.
هل يستمر وضعها هذا طويلا؟ لا توجد قاعدة. حدث مرة أن كانت مضغوطة فى العمل، وكانت هناك إجراءات وتغيرات فى هيكل المحطة التليفزيونية النى تعمل بها.. ونامت بعد الغداء فلما استيقظت، أخبرها زوجها أن مديرها اتصل لها 
فقالت: لماذا؟ نظرت لزوجها بابتسامة غائمة. 
-بالتأكيد وصلوا لقرار بخصوص تغيير خريطة البرامج.
-أى برامج؟ 
ولأن زوجها يعلم أنها لا تتخابث، وسبق أن حكت له عن تفاصيل ما يحدث فى القناة، انتبه لحالتها وأخذ يشرح لها أطراف المشكلة، ومواقف كل منهم، ولم يندهش عندما سألته بحيرة:
- وأنا، ماذا كان موقفى؟
وعندما رن جرس تليفونها، ناولها زوجها التليفون وهمس: مستر «ميلاد»، 
أخذت الموبايل واستمعت للهجة الرجل القاطعة الحازمة، الذى بدا فى آخر عباراته سعيدًا لأنها لم تقاطعه على غير العادة، بعد أن أغلقت الخط سألها زوجها: ماذا قال؟ 
أخبرت الزوج نص المكالمة التى هى من طرف واحد بحياد شديد. 
قال: هايل، كويس جدا.
سألته: يعنى هذه القرارات أنا موافقة عليها؟
رد عليها وهو يحتضنها ويقبل رأسها: نعم، نفذوا كل مطالبك. 
فابتسمت انعكاسًا لابتسامته وقالت: أوكييه، أنا أصدقك أكثر من نفسى.
وفى الصباح، أيقظت زوجها بعد أن ارتدت ملابسها، وعندما سألها ونظرة فزع تأكل وجهه: إلى أين؟ 
قبلته وقالت: اطمئن، لقد تذكرت كل شيء. 
كانت تلك الواقعة هى الأكثر دراماتيكية والأكثر مدعاة للضحك فى تجربتها مع الفراغ، وربما يكون ما حدث هو مجرد فقدان جزئى للذاكرة، تجاوبا مع ضغوط للعمل.. ويبدو أن الفراغ القاتل ليس هو الفراغ المعبر عن نفسه لكنه الفراغ الصامت المتسرب لثنايا وتجاويف عقلها فى هدوء وتمهل وروية، لتجد نفسها أمام حائط سد، فلا تدمع عيناها أو تحزن كعادتها وهى تسمع أغنية داليدا: «أنا مريضة»
ما عدت أحلم ما عدت أدخن
ما عاد لى الماضى نفسه
إنى قذرة بدونك
إنى قبيحة بدونك
إنى كيتيم فى ملجأ
ما عادت لدى الرغبة لأعيش حياتي
فحياتى تتوقف حين تظهر أنت
ما عادت لدى حياة حتى فراشي
يمسى رصيف محطة حين ترحل عنه
فأنا مريضة
مريضة تماما
كما كنت يومًا حين كانت أمى تخرج فى المساء
تاركةً إياى وحيدة مع يأسي
إنى مريضة
مريضة تماماً
أنت تأتى لا أعرف متى
و ترحل إلى حيث لا أعلم 
و قريبًا ستمضى سنتان كاملتان
دون أن تكترث لي
كصخرة
كخطيئة 
أنا متشبثة بك
آهات داليدا وحركات يديها على شعرها وهى تنزف، أو تغنى كلماتها، لا تهزم فراغها، معرفتها بما آلت إليه المطربة المنكوبة فى حياتها وانتحارها لا يخدش اللوح الزجاجى الذى تكتسى به أرضية عقلها. 
يمنعها الفراغ من السخط المتزايد على «تيد هيوز» وهى تقرأ اعتذاره المتأخر خمسة وثلاثين عاما لسيلفيا بلاث. 
«أردتُ أن أصنع لكِ طاولة كتابة متينة
تدوم الحياة كلّها 
لم أعرف
أنى صنعتُ بدلا منها
بوابةً تطلّ على قبر والدك. 
كنت تنحنين عليها كل صباح
من فوق فنجان قهوتك
مثل حيوان يرهف السمع لوجعه
ويروح يشتمّ النهاية التى تلزمه».
ويحدث فى بعض هذه الأوقات الحرجة أن يرحل عن العالم رجل بقامة المفكر «على مبروك» فلا تستطيع أن تكتب عن الرجل ولا أن تقول كلمة واحدة تنعيه بها، وهى التى تعرف أنه أحد معلميها ورغم أنها لم تلتقه فى واقع الحياة إلا أنها التقته فى عالم الأفكار، وأنه ساندها كثيرا وأهداها أدلة أنارت طريقها فى بحثها عن إيمان عقلانى، هى التى تؤمن يقينا ولكن بعض النصوص تجعل شيئا يحاك فى صدرها وهى ترفض شكها فى كليات القيم الإلهية والربانية التى تؤمن بها، لكن تفسير النصوص خارج إطارها التاريخى يبقيها فى حيرة تجعلها تسأل ربها أن يهديها لجزيرته.. فتأتى كتابات «على مبروك» كمرفأ، كطريق، كعلامة، تجعلها تبتسم وتفرح كطفلة صغيرة يشجعها معلمها ويربت على كتفها، فتحتفظ بمقولاته الفلسفية والتفسيرية تفكر فيها، تتفق معه كثيرًا فى أنه:
■ «يلزم «أنسنة» القرآن واستعادته كخطاب للناس، لكى يكون ممكنًا استعادة الإنسان (كفاعل مبدع)، وأنسنة السلطة والعودة بها إلى حيث تكون موضوعًا للمحاسبة والمساءلة». 
ويرشدها كى لا تقع فى الفخ الذى يقع فيه الكثيرون لأنه:
■ «لا يوجد ما يسمى بخطاب دينى متشدد وآخر معتدل، فهذه خرافة وتزييف للحقيقة، فالثوابت الأساسية التى يقوم عليها الخطابان واحدة، والفرق بين الوجهين يكمن فى أن أحدهما يصل إلى النهايات القصوى، والآخر لا يصل إلى تلك النهايات، لكن بذور التشدد والتطرف موجودة فى الخطابين».
ويفسر لها لماذا تكون كل الأنظمة السياسية التى تدولن الإسلام هى أنظمة قمعية مستبعدة تعادى المنطق والعقل قائلا: «تدرك السياسة وخصوصًا حين تكون قامعة مستبدة، أن العقل المنفتح غير المقيد هو أخطر ما يهددها، ومن هنا ما تسعى إليه، على الدوام، من إزاحته وإبعاده. وإذ تدرك استحالة إنجاز هذا الإنجاز بما تمتلك من وسائل الترويع والبطش، فإنها تتوسل بالدين والشرع لتضعهما فى مواجهة معه، وللغرابة، فإن ذلك لا ينتهى إلى إسكات صوت العقل فحسب، بل إلى تهديد منظومتى الدين والشرع على نحو كامل». 
يجيب عن السؤال المعضلة لماذا فشلنا فى تحقيق الديمقراطية فى مصر؟ بوضوح وببساطة مفجعة يقول: «نحن لا نملك الشروط التى تؤهلنا لتحقيقها، وكأننا نريد أن نفرض الديمقراطية بالقوة لا بالفهم ولا بالعقل، إذن نستطيع القول إن العنف لا يمكن اعتباره خصيصة تتعلق بالأصوليات الدينية بقدر ما هى خصيصة ثقافية. وللأسف نحن جميعًا نهتف تحت راية الحداثة بالعنف».
يبدو لها وهى تستعيد أفكار «على مبروك» أنه إذا كانت حالة الفراغ العقلى تنتابها أحيانا، مما يجعل رأسها صحراء بيضاء، فإن العقل المصرى لا يعانى من الفراغ بقدر ما يعانى من الكراكيب التى تجعله غير منفتح أو مستعد لتقبل أى أفكار أو رؤى أو تصورات بعيدة عن كراكيبه، وأن حالة الصحراء البيضاء التى تصف بها حالة عقلها هى نعمة، لأنها تجعلها تدرك فى تلك اللحظة حقيقة وضعها وأزمتها فى حين أن الكراكيب والصخب والزحام والامتلاء والتخمة تجعل العقل المصرى عقلا رجعيا ومتعاليا بامتياز عن معضلته التى لن يخرج منها أبدًا إلا اذا ترك لنفسه مساحة صغيرة يمكن لصحراء بيضاء أن تفترشها، لأنه ربما حين يحل الصمت، ويجد نفسه غير قادر على التفاعل، يبحث عما يحرك وجدانه ويخدش قوقعته وربما يجده فى قصة مخترع أفاد البشرية، فى زهرة «بوجينفيليا» تمد فروعها إلى المنتهى، فى آهة لأم كلثوم، فى نغمة لموتسارت.. فيعود رويدا رويدا يطرب لمقامات الشيخ مصطفى إسماعيل، وسحر الشيخ عبدالباسط عبدالصمد ورصانة الشيخ الحصرى وبهجة الشيخ الطبلاوى.. فيهتف من أعماقه الله.. الله، دون غرض سوى توثيق المحبة. 
■ مشهد مكتمل ومقاوم للفراغ 
كنت أجهز الإفطار وساندوتش المدرسة لمريم، وعندما خرجت من المطبخ رأيتها ساجدة تصلى الصبح. تسمرت فى مكانى احترامًا ومهابة لصغيرة تعرف ربها.. كنت صامتة لكن روحى كانت تحلق بالثناء والحمد. ودون أن تدرى قدمت لى حبيبتى أجمل هدية فى عيد الأم.