الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في انتظار مطر يكنس الأتربة والسموم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ولما كانت تلك المرحلة التى نعيشها وسيتذكرها من سيطول عمره بحكايات عن فلان الذى يقسم بالطلاق على الهواء مباشرة، وعلان المسئول الذى يصرح بأن الفئة التى ينتمى إليها هم الأسياد وغيرهم العبيد، وللأمانة وللدقة فإنه قال «وغيرنا هم العبيد». ومن سوف يطول عمره سوف يحكى عن ذكرياته فى هذه المرحلة التاريخية حكايات عن انتهاك الأعراض، والتهديد بالفضائح وكشف ستر الآخرين بالباطل دائما، لأن كشف الستر لا يكون حقا أبدا. فى هذه المرحلة سوف يكون من الذكريات التى سيحكيها من سيعيشون أن طفلا قتل أطفالا محاكاة لمشهد سينمائى، وأن الكلمات فقدت معانيها وتبدلت القيم أيضا، فأصبحت الخيانة وجهة نظر والتفريط حرية تعبير، فسوف يُحكى عن من دعانا إلى أن نرتمى فى حضن عدونا. وآخر يدعونا أن نضع أرواحنا وعقولنا بين يدى قتلة لم يمارسوا فعلا غير القتل وتدمير العقول ومعه تدمير تاريخ هذا البلد.
ليست مجرد سحابة سوداء. إنه واقع لا نعرف متى نتخلص منه. واقع يملأ رئاتنا فيه روائح كريهة، وتعمى عيوننا حصاه وأتربته فأين النجاة؟. كيف ننجو منه ونحافظ على الأقل على سلامتنا النفسية، وانتزاع أقدامنا من الوحل قبل أن تبتلع الوحول كامل الجسد.
ودائما حتى لا ننسى سنجد على أرفف المكتبات الملاذ، وكان حقا هذا الكتاب هو الملاذ والوجع فى نفس الوقت، وبقدر المتعة التى عشتها معه بقدر الألم وربما اليأس الذى تركه فى نفسى، لأننى قارنت ما جاء فيه بواقعنا المزرى. فهذا الكتاب الذى مر على بعض مقالاته أكثر من نصف قرن يفضح بشاعة ما نحن فيه.
هذا الكتاب هو «طه حسين من الشاطئ الآخر- كتابات طه حسين الفرنسية، جمعها وترجمها وعلق عليها د. عبدالرشيد الصادق محمودى»، (كتاب الهلال العدد ٥٥٩- يوليو ١٩٦٧). يضم الكتاب عددا من المقالات والدراسات كتبها باللغة الفرنسية الدكتور طه حسين مشاركا بها فى عدد من الصحف وغيرها من المؤتمرات الدولية، وما عثر عليه المترجم يبدأ مع أربعينيات القرن الماضى. وقد بذل المترجم مجهودًا ليس فى الترجمة فحسب، ولكن فى البحث والجمع والشرح من خلال هوامش أضافت الكثير للقارئ وأنارت زوايا فى فكر طه حسين، اخترت فقرة من دراسة لعميد الأدب العربى تحت عنوان «الكاتب فى المجتمع المعاصر» قدمها للمؤتمر الدولى للفنانين الذى نظمته اليونسكو فى البندقية فيما بين ٢٢ و٢٨ سبتمبر ١٩٥٢.
سوف أعرض لرؤية «العميد» للدور الاجتماعى للكاتب حيث يقول محددا هذا الدور «للكاتب دور اجتماعى مازال يؤديه على مر العصور، ويحق لنا أن نتساءل عن تفسير لهذه الظاهرة. فهى حقيقة قد لوحظت وأدرجت منذ زمن طويل فى عداد الحقائق التى تلقى التسليم من الجميع، بحيث لم يعد هناك من يفكر فى مناقشتها، ومن المؤكد أنه قد وُجد فى جميع فترات التاريخ البشرى وفى جميع أرجاء العالم رجال –أو كتاب بصفة خاصة- حاولوا تحديد الدور الاجتماعى الذى يؤديه المثقف. ويدرك هذا الأخير أنه يضطلع بدور رئيسى فى مجتمع معين. ويتقبل ما يترتب على ذلك من شرف ومشقة. فهو ما إن ير بوضوح أنه يحتل مكانا هاما بين مواطنيه حتى يسلم أن هذه المكانة المعينة تفرض عليه بعض الالتزامات. وعن هذه الواجبات تجاه الغير ينجم شعوره بالمسئولية». انتهى الاقتباس ونتوقف طويلا وبوجع وبغضب أمام ما حدده العميد «وهو الشعور بالمسئولية» من قبل الكاتب والمثقف تجاه مجتمعه، فالكاتب وكما قال فى الدراسة العميد «يكتب للآخرين» وهو «يتحمل مسئوليته عما قد يكون لكتابته من تأثير على القارئ».
فهل يدرك من سيتذكرهم الأحياء بعد عشرات السنين، ممن يلوثون المناخ حولنا بالسباب تلك المسئولية. بالتأكيد وبالجزم أنهم لا يدركون ولكن أين هى مسئولية الدولة التى تهرتل مؤسساتها فى حملات فارغة مع الكثير من الندب واللطم على هذا الواقع، رغم أنهم فى موقع المسئولية. فهل هم لا يدركون بصدق أن الحل الأساسى والجوهرى يبدأ من التعليم، ومن أن يدرس فى مدارسنا مثل هذا الكتاب وغيره، عل تدريس ما فيها من القيم التى نحلم بها يتحول إلى مطر يكنس البلد من الأتربة ويطهرها مما علق بها من سموم.