الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بوابة العرب

داعش والعدمية الجديدة

صورةأرشيفية
صورةأرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا شك أن شخصًا يفجر نفسه داخل مسجد وبين المصلين إنما هو إرهابى قاتل للأبرياء. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف حدث أن أصبح هذا الشخص إرهابيًا يقتل عن قصد وتدبير مسبق أبرياء يشاركهم اللغة والدين والأرض والسماء والوطن؟ ثمة، بلا شك، أجوبة عديدة على هذا السؤال. ومنها ما يتعلق بالجوانب النفسية، والاجتماعية، والسياسية لهؤلاء الأفراد والجماعات. ولكن الذي يعنينى بالدرجة الأولى هو التفسير القائل بأن بعض الأفكار تصبح أفكارًا قاتلة. أي أن ما نحمله من تصورات وأفكار حول أنفسنا وحول الآخرين وحول العالم هو الذي يحدد علاقتنا بذاتنا وبغيرنا، بحيث تكون هذه العلاقة في بعض الحالات علاقة قاتلة أو عدمية.
تفيد العدمية في أصلها اللغوى: اللاشيء. وإذا كانت الكلمة قديمة قدم اللغة السنسكريتية، وتشير إلى (اللاوجود). وعبرت عن بعض ملامحها أسطورة (سيزيف) اليونانية التي وصفها باقتدار الكاتب (ألبرت كاميه) في قصته المشهورة، فإنها تعنى أيضا انقطاع الحبل والعلاقة ليجد العدمى نفسه إما حرًا أو منحرفًا. وهذا يعنى، أن السمة الغالبة للعدمية إنما هي القطيعة مع العالم. ولقد اتصفت بعض الحركات الإسلامية، كما هو معلوم، بـ(التكفير والهجرة)، وبالرفض المطلق لكل ما هو موجود. وحكمت على المجتمعات الإسلامية التي تنتمى إليها بالجاهلية.
وقبلها عرف التاريخ البشرى أشكالًا من العدمية بدءًا من العدمية اليونانية المتمثلة في الشك المطلق، انتهاء بالعدمية السياسية والأخلاقية التي عرفها العصر الحديث وأصبحت لها رموزها: النازية والفاشية في السياسة، ونيتشه وهيدغر وكاميه في الفلسفة، ودوستويفسكى وبلانشو في الأدب. 
وتجلت أكثر في المجال السياسي، وعبرت عنها النزعة الفوضوية، التي مثلها باكونين الذي نقل العدمية من حالة النقد الجذرى للقيم إلى حالة الإرهاب العملى، معتمدًا في ذلك على قاعدة: «تدمير أكثر ما يمكن وبأسرع ما يمكن»، وبذلك تماثلت العدمية مع الفوضوية من حيث تحول التدمير والخراب إلى غاية في حد ذاتها. 
وفى تقديرى، فإن كل المؤشرات تؤكد أن الجماعات الإسلامية الإرهابية، أمثال (القاعدة) و(داعش)، إنما تحركها هذه النظرة العدمية، معتمدة في ذلك على عملية تحويل الدين إلى أيديولوجية خلاصية تستبدل بالعالم القائم عالمًا آخر وهميًا، بحيث أصبح قتل الذات أو النفس شرطًا أوليًا لبناء الذات في عالم آخر، وتحول الموت عند هؤلاء الشباب، الذين يمثلون في كل الأحوال جيلًا بعينه له صوره المثالية وطوباويته الخاصة، ليس ذلك القدر الخارجى الحتمى الذي يصيب كل كائن حى، وإنما أصبح الموت وسيلة للتحول والتحقق. أي، أصبح طلب الموت من أجل عالم متخيل باسم (الجنة) أو (عالم كامل). وهو المعنى الجديد لهذه العدمية. 
ففى الوقت الذي تنكر فيه العدمية النظرية سواء الفلسفية أو الجمالية، أي عالم متعالى، فإن العدمية الجديدة التي يعرفها العالم الإسلامى، تؤكد بمفارقة واضحة، عن ذلك العالم اللامرئى، وتجعل منه حقيقة أرضية مرئية. وكل ذلك بدافع تحقيق تصور طوباوى للدولة، أو بالأصح (دولة الخلافة)، أو (الدولة المستحيلة) كما سماها بعض الباحثين، ناشرة الفوضى واليأس حيثما حلت، وباحثة عن بطولة زائفة يعززها الإعلام المعولم والمؤدلج الذي لا يسمح بالتمييز بين الحقيقى والافتراضى، والواقعى والخيالى، وتقدير الأمور من حيث قوتها وضعفها. 
على أن ما يجب التشديد عليه هو أن هذه العدمية الدينية إنما تشير إلى الأزمة العامة التي تعرفها المجتمعات الإسلامية الناتجة ليس فقط عن إخفاق الدولة الوطنية الحديثة في تحقيق أهدافها، وإنما عن إخفاق (الإسلام السياسي) الذي يهدف إلى بناء الدولة الإسلامية، وإلى حالة التقهقر التي لحقت بالمستويات المختلفة للمجتمعات العربية، خاصة ما تعلق بتراجع مستوى التعليم، وغياب الإصلاح الدينى والسياسي، وتردد النخب في الدفاع عن قيم التنمية والتقدم.