الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أنا أحب "العيال الدحيحة"

صفاء النجار تكتب عن ملح الأرض الذى فسد:

صفاء النجار
صفاء النجار
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا أخاف على مصر من عسكرية السيسي ولا خيانة الاخوان ولا عجرفة الشرطة ولا انتفاضة الأطباء أو غيرهم. 
أخاف عليها من ملح الأرض إذا فسد، وملح الأرض يفسد إذا لم يتحرك، إذا لم يتعلم، إذا لم يعمل.. أخشى عليها من انتشار نموذج الشاب الذي جاءنا بالأمس عن طريق أحد مكاتب التوظيف، ليعمل لدينا سائقا، ودار بيننا هذا الحوار :

- أين كنت تعمل قبل ذلك؟
- كنت أعمل فى الصاغة.
- فى الصاغة؟!
- كنت عند ناس مسيحيين وأنا المسلم الوحيد ومستريحتش.
- وبعدين؟ 
- رحت عند مصنع لازوردى فى العبور.
- كويس قوى، ههه.
- كل يوم أصحى من خمسة علشان أبقى فى المصنع الساعة ٨ صباحا، والشغل لعشرة حتى لو مفيش شغل.
- عادى.. ده نظام وساعات عمل. 
- كانوا عايزينا نشتغل حاجات غلط، مش زى ماتعلمنا فى الصنعة. 
- «لازوردى» اسم كبير، ماركة، عنده تصميماته، إزاى يعمل حاجة غلط؟!
- عايزنا ننفذ زى ما هما عايزين، وأنا تعودت أعمل اللى أنا عاوزه، ما حبش حد يفرض عليا حاجة. اتخانقت معهم وسبتهم. 
- وكنت بتقبض كام؟
- ثلاثة آلاف جنيه أو أربعة.
- أنت عارف مرتب السواق كام؟ ١٧٠٠ جنيه.
- عارف.
- ساكن فين؟
- فى منشية ناصر.
- ومواصلاتك؟ 
- عشرة جنيه يوميا.
لم أكن مقتنعة، لكن «محمد» قال له نجرب وتجرب معنا لآخر الشهر.
قاد الشاب السيارة، لكنه لم يكن يعرف الطريق من المنيل لكوبرى الجامعة، فكنا طوال الطريق مرشدين له يمين، شمال، أوصلنى ومريم لمكتبة مصر العامة وأوصل «محمد» للجريدة فى الدقى، ثم عاد وانتظرنا أمام المكتبة.
ونحن عائدون فى طريقنا من المكتبة للمنيل، أشرت لسوبر ماركت مترو.
- ده مترو، أحيانًا هكتب لك فى ورقة حاجات تشتريها لى منه.
قاطعني..
- لا أنا مبشتريش حاجة، أنا جى أسوق بس.
أشرت له بيدى، وقلت كلمة واحدة:
- أوكييه. 
حاول أن يبرر رفضه، لكنى كنت قاطعة وحاسمة.
- شكرا.
ما الذى دفعنى لهذا الطلب؟ لعل صديقى د. مجدى إبراهيم Ibrahim Magdy Hussein، يمكنه تفسير الأمر.
هل سبق وأن دخلت لعبة وشعرت فيها أن العبث زاد عن حده، وأردت أن تكسر هذا العبث حتى لو كانت الحقيقة ستعميك؟ أسترجع وأندهش وأكتئب. 
■ كيف لحرفى يعمل فى مهنة الصاغة، أى صناعة الذهب، أن يترك حرفته ليغيرها بمجال عمل آخر؟ وإذا حدث فإن عليه أن يؤهل نفسه لمعرفة أصول وقواعد المهنة الجديدة، وأهمها معرفة جغرافيا المدينة التى سيقود فيها السيارة، محاور وتقسيمات المدينة، الشوارع والمناطق الرئيسية بها، أسماء الكبارى.. فى فيلم «الأيدى الناعمة» عندما لم يجد البرنس وظيفة تناسبه غير أن يكون مرشدًا سياحيًا بحكم إتقانه للغات متعددة أوضح الفيلم كيف قام بدراسة الأماكن السياحية وأخذ يقرأ ويبحث فى المراجع عنها، وكان يذهب إلى الأماكن ويستمع إلى المرشدين العاملين فعليا فى المهنة. لكن يبدو أنه فى مصر أصبحت كل المهن والحرف بلا قواعد أو أصول.
■ عدم القدرة على الالتزام بقواعد النظام العام مثل مواعيد العمل، سألنى صديق يعمل مديرًا للتوظيف فى أحد مصانع الحلويات الكبرى، إن كان هناك من أعرفهم ويرغب فى العمل فى خط إنتاج جديد يجهز لافتتاحه، وسألته هل يطلب خبرات خاصة، قال لا نحن سندربهم، ونمنحهم دورات تدريبية مدفوعة الأجر، أين المشكلة؟ وماذا عن البطالة؟ وعن الهجرة غير الشرعية لإيطاليا، قال: سأجلب عمالاً من شرق آسيا. العامل المصرى غير ملتزم، يأتى يوم ويغيب يومًا أو اثنين، وإذا سألته لماذا غبت؟ يجيب ببساطة: صحيت من النوم متأخر، والسبب أنه يسهر على المقهى مع أصدقائه. العامل لا يطور نفسه، «عنجهى» يعتبر نفسه أحسن من المهندس والمدير الذى يشغله، وأنهم لا يفهمون شيئًا وهو الذى يفهم.
■ فى السبعينيات انتشرت نغمة «إيه فايدة التعليم؟» وارتفع الإفيه الشهير «بلد بتاعة شهادات»، وكأن الشهادات سبة أو عيب، وتعالت نبرات أن «تعلم حرفة أحسن من الحصول على شهادة»، وأظهرت سينما السبعينيات والثمانينيات نماذج السباك، البواب، والكهربائى الذى يكسب أضعاف الموظف والمهندس والطبيب. أى حيلة شيطانية؟ أى سم شربنا؟، وانتشرت مدارس التعليم الفنى بديلًا عن التعليم العام، كانت فكرة ظاهرها الرحمة وباطنها وفى جوفها تولد العذاب. لأن المدارس الفنية أصبحت بابا لمن لا يريد أن يبذل جهدًا ويجلس على مكتبه يذاكر ويعرف أساسيات علوم الكيمياء والفيزياء والأحياء والمنطق والفلسفة وعلم النفس والهندسة والجبر والإحصاء، العلوم التى هى أساس التقدم الذى نقل البشر من عصور الظلام إلى المدنية الحديثة. ومرت الأيام ومن تدهور لتدهور انهار التعليم وانهارت الحرف والمهن، انهيار قيمة التعليم يحمل فى طياته انهيارًا لقيم بذل الجهد، تحمل المشقة، الصبر، الالتزام، فلما انهارت جرفت فى طريقها كل القيم السابقة، فلم يعد هناك حرفى يعرف أصول مهنة ودقائقها ولم يعد هناك شيوخ للمهنة وكهنة لها يورثون خبراتها، الديمقراطية صارت تعنى التسيب، عدم الالتزام، المساواة تعنى أنه لا قيمة لشيء، التومرجى ممكن يفهم أحسن من الدكتور، الميكانيكى يعلم على أجدعها خريج هندسة، لم تعد هناك قيمة للتعلم، للخبرة.. لا شيء، وهذا اللا شيء هو الذى أخشاه على مصر.
■ قيمة التعليم والانتظام فى الدراسة لا تعنى بالنسبة لى فقط اكتساب المعرفة أو المعلومات لكنها تعنى الانضباط، الالتزام، الجدية، أنا أحترم الطلبة الذين يحصلون على التقديرات المرتفعة لأنهم الطلبة إما الأكثر ذكاء أو الطلبة الأكثر انضباطا والأكثر قدرة على التحمل.. بدون رتوش أنا أحب «العيال الدحيحة»، لأنهم أملى للمستقبل بعد أن أصبحت كل الأشياء فى بلادى مزحة.. عالم من المزحات بلا ضفاف.. عالم من المنثورات والمتفرقات لأحداث وكلمات دون ترتيب أو مغزى، وانحدرت السخرية المصرية، من النكات العميقة إلى الألش اللفظى السقيم.. والذى تستشعر معه أن تضييع الوقت لدى البعض حرفة.. لعبة البازل الكبيرة التى ليس عليك أن تجهد نفسك لتعيد تركيبها، يكفيك أن تضحك على العين المشقوقة، الأنف الساقط، السخرية فى مصر موجة بتجرى ورا الموجة، فلا البحر يخرج لؤلؤه، ولا الريح تكف عن الهبوب. ولا تماثيلنا الرملية تكف عن التفتت بين أيدينا. 
■ لأنه.. ليست كل خميرة غضب تصنع خبزًا.. فى بلادى تصنع الخميرة حكايات للمنادمة والمسامرة، تذكارات يحفظها لنا «فيسبوك» ونحن نهتف «هو يمشى مش هنمشى» والحق أننا كنا نتنبأ بنصف الحقيقة فهو لم يمش بل ظل رابضًا كطائر رخ أسطورى حجب النور عنا ظننا أنه رحل، لكن الظلمة لم تتبدد، والعفن ما زال يسد الأوردة، ونحن لم نمش وظللنا ندور محلك سر.
■ لأنه فى بلادى يمكنك أن تحشد الآلاف فى الميادين، والجمعيات العمومية، لكن حذار أن تدخل بهم معركة، فجنودك يا «قطز» لم يتمرنوا على حمل السلاح، أو الكتاب، أو الفأس. فألعاب الموبايل لا تحتاج مرانًا، والمهارات اللفظية واللغوية تجعلهم سادة المنتديات، دون «من جد وجد» أو «صحيان مع الديك». إنهم حاذقون جدا وكلهم قادة وجنرالات ولديهم عشرات الوصفات والحلول، لكنهم لم يختبروا أى طريق، وإذا اختاروا فليس لديهم صبر على الكر والفر، ولأنهم يخشون التفرد والوحدة ولم يعتادوا استبطان النفس، لذا سرعان ما سيتركونك وحدك تواجه التتار، وسينتظرون أخبارك ويخططون لك ولمعركتك، ويحركون نقلاتك وهم جالسون على تويتر وفيسبوك، فإذا كسبت المعركة فقد وجهوك وساندوك، وإن خسرت فالنكسة لك وماذا عليهم ونحن قوم: مات الملك، عاش الملك. 
■ «العيال الدحيحة» بالنسبة لى منهج حياة. ألّا تخدعك المتع الزائلة، أن تغرس ثمار الفاكهة، أن تكون مستقيمًا. فإذا كنت ممن يسخر من تعبهم الفاشلون فأنا أحبك.
«العيال الدحيحة» بالنسبة لى منهج حياة. ألّا تخدعك المتع الزائلة، أن تغرس ثمار الفاكهة، أن تكون مستقيمًا. فإذا كنت ممن يسخر من تعبهم الفاشلون فأنا أحبك