الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

محنة الألوان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعطينى ريشتها، تفتح علبة الألوان، تفرد اللوحة البيضاء، تعلقها على مسند، وتمد يدها بالفرشاة ارسمى يا جدتى. 
أستنكر طلبها، لم يكن لى أى كراسة رسم، هذه الأشياء لم تكن فى الكتّاب، كان لنا لوح ولكن لتسميع وكتابة آيات القرآن الكريم، كراسات الرسم ظهرت بعدى بسنوات.
ارسمى لوحتك الخاصة، ارسمى ما تحلمين به. ليس هذا بالأمر اليسير، فى أيامى هذه تختلط الذكريات بالأحلام بالمخاوف، ويحتاج فض الاشتباك بينهم إلى مهارة وحذق لم يعودا لى.

منذ ليلتى الأولى تخايلنى تموجات ألوانه.. تغير كل شيء، لكنه بقى مزهوا، لامعا يملأ السجادة المعلقة فى منتصف الجدار القبلى فى الصالة الكبيرة، أتحسس ملمسها الحريرى، أتعجب للون أرضيتها الأبيض الثلجى الذى يتوارى ليترك للطاووس كل المكان، تجذبنى ألوانه أغرق فى أزرقها وأحمرها وأصفرها، تختلط الألوان فلا أفصلها عن بعض، يبرق الأخضر والبرتقالى والبنفسجى، تومض آلاف العيون المنتشرة على ذيله، قدرا مسلطا، لا يغفو أبدا ويطلع على كل شيء، كلما نظرت إليه من زاوية جديدة تغيرت ألوانه. 
يتشاءم البعض من وجوده بالبيت.. من صوته الذى يشبه أسطوانة قديمة مشروخة، فهل حقا كان السبب فى دخول إبليس الجنة وخروج آدم منها؟ أم أنه كما قال «منير» مقدس ورمز لكبير الملائكة وإله الشمس «تموز»؟ لا أتذكر.. غير أنى تفاءلت به، حين عرفت للمرة الأولى معنى أن أنام قريبة من شخص إلى هذه الدرجة، أضع يدى على العرق النابض فى رقبته، أجده هادئا مطمئنا، وأنا لا أصدق نفسى، متى تستيقظ الشمس؟ لكنه حين استيقظ مبكرا كما هى عادته دائما قبلنى فى شفتى وقال: ابقى نائمة، لم تنامى جيدا بالليل وغطانى.
لكنها تصر
- ارسمى ما تشعرين به.
تترك اللوحة البيضاء فى غرفتى وتسافر... 
بأى الألوان أبدأ وحياتى بين عالمين، الأسود والأخضر طَبَعا فى الروح صفاتهما، والأزرق جاء متأخرا ليهدئ من روعى، ألجأ إليه بعيدا عن الصخب الذى يستشعره كل من يدخل عالما جديدا.. اللون الأسود قوى، صريح، أشتاق إلى حدته وصرامته، أرتديه فى أيامى الأخيرة تعويضا عن سيولة الروح وهشاشتها، أرسمه خطوطا، خطا مستقيما يربط بين نقطتين، بين ميلاد وموت، ربما كان طريقا.. أى الطرق التى مشيت عليها؟! أى درب يؤدى بنا إلى النهايات المحتومة؟! ربما النظرة المستقيمة لأبعد من بيت فقير يقوم بعيدا وحيدا فى غربة أبدية عن الآخرين، مستكفيا بنفسه.
لم يعد بيتك صار مجرد بيت.. البيت المكون من ثلاث غرف، غرفة للضيوف بها ثلاث كنبات، كل كنبة لها مسندان وبينهما تكاية، ويغطى الكنب كيريتون مطرز: كنبة يغطيها لون «نبيتى» سادة، والأخريان مطرزتان بأزهار حمراء، رسمها يشبه لوزات القطن. الحوائط صارت كالحة، ومن أثر اللمبة الوناسة يتصاعد هباب مخروطى الشكل، تتزايد مساحة الغابات المرسومة بفعل الرطوبة، تتآكل القلوب التى حفرها «يحيى»، والحرف الأول من اسم «صفية».
كل شيء فى البيت يبدو أصغر مما كان، أضيق، لكن «الوسعاية» التى أمامه ما زالت كما هى تحدها المصطبة، وتظللها تكعيبة العنب. 
الأسود قرين الأرض والظلمة، الليل كافر، تشكلات الجان، الأسود الجامع لكل الألوان القادر على امتصاص كل ما يقترب منه، حجر المغناطيس الذى أريتنى إياه وأنت فى المدرسة، تلتقطين به مسامير ودبابيس البيت، البيت الذى كان متماسكا وفجأة تخلخلت روابطه، أم أن هذا حاله منذ زمن؟ فقط كنا ننتظر مغناطيسك، حجرك الأسود، كى نرى التفكك والصدأ اللذين يأكلان روحنا، ويرتفع صياح أبيك وأمك:
- أنتِ السبب؟
- إيه كان بإيدي؟! ليه ربنا يفضحنا كده؟
- بنتك هى اللى هتفضحنا.
- سافر وارجع بها، امنعها، أنت أبوها.
- أنت أمها.
حلقة مفرغة وأسطوانة تتردد حشرجتها كل مساء، كل صباح. 
لكن أحدا لم يسافر إليك ولم يسأل عنك فى بعدك النائى، الذى لا أستطيع اتخاذ موقف منه، فلعل لونك الأسود يجذبنى إلى ضفة ما، وأيا كانت ضفة النهر فأنا معك، هاهو أسودك يحفزنى لكى أسألك لماذا لم تأخذينى معك كى أكون بجانبك واكتفيت بالرسائل المتبادلة دون عنوان سوى طابع بريد لمدينة غريبة.
تزداد الفجوة بينى وبين أمك، وبينها وبين أبيك، تزداد الفجوات ويسود اللون الأصفر، الفجوة لا أعرف كيف أرسمها، فجوة لا تعنى دائرة، ربما تكون جفوة.. صحراء جرداء واسعة تصرخ فيها فلا يرتد صداك أبعد من أذنك.
الأصفر مقبض، الخنجر الذى ينتظر من يغمده ليجهز على علاقتى بأمك، لماذا تبدو مترامية الأطراف ولا سبيل لجمعها؟
كانت تشبهنى عيناها، شعرها، وجهها، عدا أنها أكثر بياضا، لم يكن لها هذا الجمال الخاطف، الساحر.
عندما تراها امرأة معى تقول: 
-بنتك شبهك خالص.
وأكمل أنا فى سرى ما لم تقله: فلاحة مثلك.
لم تحقق توقعاتى، درجاتها متوسطة، تحب ما أكره وتكره ما أحب. 
الأصفر الشقاق الدائم بيننا وقد تعبت منه، الأصفر مرارة، وعتاب مصلوب على الشفاه، توتر، انتظار لشيء لا أتوقعه، الموافقة على الزواج من رجل لا أستطيع إصدار حكم عليه بعد كل هذه السنوات.. أذكره تماما حين دخل بصحبة أحد أعمامه، استقبله «فؤاد» فى حجرة المكتب، ثم نادى: 
- فاطمة! خدى عوض يلعب مع الأولاد. 
نفر الولد من يد فاطمة وكأنه فهم أن المطلوب عدم وجوده فى الغرفة، أو كأنه تعود على هذا السلوك من الآخرين، لكنه لم يبرح المقعد الذى جلس عليه فى الصالة الكبيرة. 
عند سقوط الورقة تستخلص منها الشجرة كل المادة المفيدة، ولا تبقى فى الورقة إلا الفضلات ذات اللون الأصفر، وعندما يعجز الجذر عن امتصاص الماء وتستمر عملية النتح يفقد النبات الكثير من حرارته، مما يعرضه للتجمد، لذا تتساقط الأوراق تدريجيا، أوراق خطية مدورة، إبرية، بيضاوية، حوافها ملساء، مسننة، متموجة، منشارية، ويبقى مكانها أثر فى الساق يسمى «الندبة»، كما الندوب التى تبقى فى الروح.. الأصفر جوع، هزال، لون مريض عليل، لون الذهب، فأر يبحث عن كنزه الذى ضيع كنزه، قرص الشمس، ذبول الذؤابة الأخيرة لشمعة موقدة فى حجرة ساكنة إلا من سريان دموع امرأة على جسد مسجى، الوشوشة، الهمسات، الشائعات، رنين الصاجات، لمعة «غوايش» لا أشتريها من الموالد، وغيرة لا أريد لك أن تختبريها.
من قال إن إمساك العصا على الدوام ترهق اليد التى تضرب؟ 
قرأت يوما أننا نحتاج إلى أربعة أحضان حب وتعاطف فى اليوم من أجل أن نبقى أحياء، ونحتاج إلى ثمانية من أجل أن نستمر، ونحتاج إلى اثنى عشر حضنا كى ننمو ونتطور، فهل اتسع حضنى لأولادي؟
من شرفتى أراهم، يسيرون أكتافهم مثقلة بعذابات أيامهم الطويلة، أتطلع فى وجه ابنتى يوجعنى وجعها الذى تعيشه، ولا تمسكه بيديها، وتدير وجهها عنه، عاجزة لكنها لا تسند نفسها... تفتحين دفتر محاضراتها، تفاجئك وردة مجففة، ويقفز فى وجهك قلب مرسوم يخترقه سهم، تميزين من الحرفين الحرف الأول من اسم «راوية»، تفركين الوردة بين أصابعك وتشطبين القلب والحرفين، تتركين رسالتك فى دفترها دون أن تسأليها. وعلى مائدة العشاء، تتحدثين بهدوء وأنت تضعين الشوربة فى طبق فؤاد. 
- راوية هتقضى أيام المذاكرة هنا.
وأيام الامتحان؟
- تروح وترجع فى نفس اليوم؟ 
فعن أى شيء تبحثين الآن؟ عن دموع فى عينيك؟ تستدعينها فيصعد إليك خادم البئر بدلو فارغ. هل تلجئين لوضع نقطة واحدة من العسل فى عينيك، وتستمتعين باللهيب لثوانٍ؟ لم تعد عيناك تستجيبان للغسيل الطبيعى، عليك بالقطرة، ترطب عينيك، لكن حزنك سيبقى جافا حارقا.
مساكين الرجال الذين لا يبكون، تمتص أجسادهم سمومهم، وأحيانا، ترتد إلينا، ليس صحيحا أنهم بلا دموع. ما الذى جعل فؤاد يبكي؟ فى المرة التى رأيت فيها دموعه أيقنت أنه يحبنى وأن لى مكانا فى قلبه، لكن الأمر لم يستمر طويلا فقد مات فؤاد، قبل أن يختبر طعم الدموع على ابنه البكر.
حبيبة هل صحيح أن ابنتك ستكون شبهك تماما؟
ستكون جميلة جدا، أنت فُقت جمال «نور» و«شمس» و«قمر»، هل ستكون جميلة مثلهن أم ستكون جميلة مثل «صفية»؟ أم مثل «حياة»؟ كلهن كنا الأجمل، وأنت جئت لترفعى رأسى، وأتباهى بجمالك، وأتقبل المجاملات..
طالعة لجدتها.
أول ما تبادر لذهنى وعيناى ترى عبارتك: «أحتاج إليك يا جدتى» اللون الأحمر، قطرات حمراء تفصل بين عالمين، هو دائما اللون الأحمر يطاردنا، اللون الأحمر حياة وموت، الأحمر شره، صرخات، حريق، لهب، شرارة انطلقت من فرن لم تنته صاحبته من الخبيز، طارت الشرارة إلى برج الحمام، وطار الحمام المشتعل، وأخذ يتساقط على سطح المنازل الأخرى المغطاة بالقش والحطب، فاشتعلت المنازل الواحد بعد الآخر، يوما بأكمله احتاجه الحريق كى يخمد، لكن الشرارة التى أصابت «يحيى» و«صفية» احتاجت كل عمرهما ولم تخمد. ينظر لهما الموت ويقول: لا شيء يشبه الكائن الحى أكثر من النار، هى كائن متنوع تستطيع أن تكتسى بكل الأشكال سواء منها المفزعة إلى أبعد حدود الفزع، والأليفة إلى أبعد حدود الألفة، وهى وحدها القادرة على كشف معدن الأشياء وروحها. 
اللون الأحمر أحلامك وكوابيسى.