الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الدور التاريخي والسياسي لبارات مصر

قيام وانهيار دولة الأنس

الكاتب محمود خير
الكاتب محمود خير الله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في كتاب «بارات مصر.. قيام وانهيار دولة الأنس» للكاتب محمود خيرالله يحرص الكاتب على تتبع تاريخ البارات، منذ بداية نشأتها في مصر، وكيف كان لهذه البارات دور وطني حقيقي، حتى إن بار ريش -على سبيل المثال- قد انطلقت منه ثورة سعد زغلول ١٩١٩، فضلا عن الدور الروحى والمعنوى لتشكيل المزاج الجمعى الذي لعبته البارات في حياة المصريين بعيدا عن المشاكل اليومية المعتادة.
أن تكتب عن تاريخ البارات محاولًا الاحتفاء بها في بلد عربى ومسلم يُعد من الأمور الصعبة، حيث يعتبر العقل الجمعى أن البارات والخمور من الأمور المستهجنة باعتبارها مُحرمة، ومن هنا تأتى أهمية هذا الكتاب الذي يتميز بالشجاعة في مواجهة الجميع؛ فهو لم يؤرخ للبارات فقط، ولم يتحدث بحنين وحسرة على مئات البارات التي اندثرت، بل حرص خيرالله على تتبع صناعة الخمور في مصر لا سيما البيرة التي اخترعها قدماء المصريين منذ القدم. 
يحاول خيرالله منذ بداية كتابه، تتبع بداية نشأة البارات في مصر فيقول: «انطلقت البارات وراجت بشكلها الحديث في مصر، خلال عقود الاحتلال الإنجليزى ١٨٨٢-١٩٥٢م، وتأسس العشرات منها مطلع القرن العشرين؛ للتخفيف من الأعباء النفسية على الآلاف من جنود الاحتلال، لكن في الأربعينيات من القرن ذاته أنفقت شركات الخمور العاملة في مصر أموالًا طائلة للدعاية لمنتجاتها، واضطرت للمشاركة في إنتاج أفلام سينمائية موضوعها رصد حروب الشرطة ضد تجارة المخدرات؛ لتكريس الصورة الذهنية التي تعتبر تناول المسكرات فعلًا طبيعيًا في أغلب الأفلام السينمائية المُنتجة في النصف الأول من القرن العشرين»، وهو بذلك يسعى إلى التأكيد على أن شركات صناعة الخمور في مصر كان لها الدور الكبير في تطور صناعة السينما في مصر، ومحاولة الترويج لها للمزيد من الترويج للخمور التي تُصنعها وجعل الصورة الذهنية للعقل الجمعى تجاه الخمور أمرًا طبيعيًا.
يذكر خيرالله في كتابه نقلًا عن «معجم الحضارة المصرية القديمة» إن البيرة كانت المشروب القومى الشائع بين الأحياء والآلهة والموتى في مصر القديمة، ويضيف المعجم في تعريفه للبيرة: «كانوا يصنعونها بعمل عجينة من دقيق الشعير، تُسوى في النار كالخبز، ثم يُنقع خبز الشعير هذا، وربما أُضيف إليه البلح للتحلية، وبعد أن يختمر يُصفى السائل في قِدر، ويقول ديودوروس إن طعم ونكهة هذه البيرة لا يقلان في الجودة عن طعم ونكهة النبيذ، وقد أيّد هذا الرأى كتبة الدولة الحديثة، الذين كانوا في وقت راحتهم من الدراسة يحتسون النبيذ والبيرة بمتعة متساوية».
ينتقل خيرالله إلى استعراض موقف الإخوان من الخمور في مصر أثناء فترة حكمهم، وكيف حاولوا التضييق على وجودها، وحينما فشلوا في ذلك فرضوا عليها المزيد من الضرائب للتربح منها، ثم ينتقل إلى الحديث عن بعض البارات الموجودة في وسط القاهرة، وأهمية هذه البارات وتاريخها ووصفها، فيتحدث عن الدور التاريخى الذي لعبه بار «ريش» في ثورة ١٩١٩ وكيف كانت تُطبع داخله منشورات الثورة، وكيف انطلقت منه، ويذكر خير الله: «تأسس هذا الفرع في القاهرة، ليكون امتدادا لسَميّه في باريس، عام ١٩٠٨ وهو أحد أقدم مطاعم العاصمة المصرية»، يحاول الكاتب وصف البار من الداخل والحديث عن الباب السرى الذي ينفتح على شارع هدى شعراوى، وعن البهو الذي لا يعرفه الكثيرون الذي كان يختبئ فيه سعد زغلول ورفاقه لينطلقوا إلى ثورتهم التي أعدوها هناك، كما يستعرض تاريخ المكان، وحياة المثقفين الذين كانوا يأتون إليه، ومنهم نجيب محفوظ وغيره، وكيف انتقلت ملكية هذا البار بين العديد حتى وصلت إلى صاحبه الأخير مجدى عبدالملاك، لينتهى حديثه عنه بذكر بيان المثقفين الذي صدر منه ١٩٨١، الرافض لقرارات السجن والاعتقال للمئات من مثقفى مصر، أواخر عهد الرئيس الأسبق أنور السادات، ثم الدور الذي لعبه «ريش» في ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١.
يتحدث خيرالله بعد ذلك عن بار «الحرية» في ميدان باب اللوق، وأهمية هذا المكان وتاريخه العريق وقدرته على جمع الكثير من الرواد من المصريين والأجانب، فيصفه بأسقفه العالية التي ترتفع نحو ٥ أمتار، يقول: «تأسس المقهى قبل ثمانية عقود محتضنًا من ثاروا ضد فساد حاشية الملك فاروق الأول، آخر أحفاد محمد على باشا، ومن رفضوا القبضة الأمنية النافذة لنظام ما بعد يوليو»، يذكر المؤلف أن البار افتتح في يونيو ١٩٣٦، قائلا: «لو كنت محظوظا، ستجد من يروى لك قصة المبنى، الذي يقع المقهى في طابقه الأرضى، ستنظر إلى أرضية المكان بحثا عن آثار صاحب البيت القديم، الذي هُدم لتقام هذه العمارة الإنجليزية الطراز، لكنك لن تعثر على شيء، قد تجد من يقول لك إن هذا المقهى تأسس على الأرض التي كانت تضم بيت الزعيم المصرى أحمد عرابى ملهم جميع الثوار المصريين، في المائة عام الأخيرة، ومن هذا البيت خرج عرابى مع مؤيديه إلى قصر عابدين ضد الخديو توفيق».
يذكر خيرالله بار «كاب دور» أهم البارات، وأكثرها شعبية في وسط القاهرة، وهنا يتحسر على النظرة التي بات ينظر إليها المصريون للبارات حينما يقول: «لو أنعشنا الذاكرة قليلا لتذكرنا، أنه في أزمنة مصرية أفضل من تلك، التي نحياها الآن، كان هناك بار في دار «أخبار اليوم» الصحفية، في الستينيات من القرن الماضى، كما كان هناك بار في مدخل «نقابة الصحفيين»، يتحسر الكثيرون عليه، لأنه تم تخليده في الذاكرة السينمائية»، كما يقول: أنشئ «الكاب دور» في ثلاثينيات القرن الماضى، الذي اتجه فيه بعض صغار المستثمرين الأجانب إلى وضع جنيهاتهم القليلة، لافتتاح مقاهٍ وبارات على الطراز المحلى، مستجيبين لاحتياجات السوق السياحية المصرية»، و«تعود التسمية الفرنسية «Cap dOr» بالعربية «الرأس الذهبي» إلى ما يفسره عدد من زواره الأوفياء، بأن باشوات الزمن القديم كانوا يحضرون إلى منطقة وسط القاهرة لزيارة المسارح والملاهى باهظة التكاليف، ويتركون السائقين من ذوى «الرءوس الذهبية» يذهبون إلى البارات الرخيصة، فكانت التسمية دليلًا مبكرًا على اقتراب البار من الشارع المصرى، وهى السمة التي حافظ عليها لنحو سبعة عقود».
ينتقل المؤلف للحديث عن «المخزن» أو بار «ستيلا» في شارع طلعت حرب، وهو البار الذي يُطلق عليه «بار المثقفين» نظرًا لأن كل رواده تقريبا من الكتاب والمثقفين المصريين «تقول الروايات: إن بار ستيلا أنشأه رجل أعمال يونانى بعدما تزوج سيدة مصرية عام ١٩٥٥ ليكون مخزنا للبيرة، لكنه سرعان ما حوله إلى بار، ما زال الكثيرون يشيرون إليه حتى الآن باسم «المخزن» دون أن يعرفوا السبب»، يتحدث المؤلف عن الكثيرين من رواد هذا البار من المثقفين منهم محمد مستجاب، ونجيب سرور وغيرهم من الكتاب.
ينتهى الكاتب هنا من بارات القاهرة، وهذا ما يوجد العديد من علامات الاستفهام؛ لأن الكتاب اسمه «بارات مصر» في حين أن المؤلف لم يتحدث سوى عن أربعة بارات فقط في وسط القاهرة التي تحتوى العشرات من البارات القديمة التي تحمل الكثير من التاريخ، وهنا نتساءل إذا كان خيرالله يرغب في الحديث عن أشهر بارات وسط البلد، فكان من الأجدى به أن يضم إلى كتابه «النادي اليوناني»، و«الجريون»، و«استوريل» وغيرها من البارات المشهورة، لكنه هنا ينتقل إلى الإسكندرية ليتحدث عن بارين اثنين فقط من باراتها، وهما بار «الشيخ على»، وبار «إيليت»، كما يؤكد أن الإسكندرية كانت تحفل قديمًا بمئات البارات، ولكن التغيير أدى إلى اندثار الكثير جدا من هذه البارات، ولم يعد منها سوى عشرات قليلة فقط ما زالت تحاول الصمود في وجه التغيير، فيقول عن بار «الشيخ على»: «كرجل قاهرى، من أصل ريفى لا أستطيع أن أفهم كثيرا لماذا يمكن أن يحمل البار تحديدا اسمًا مثل «الشيخ على» إلا إذا كان هذا البار فعلا في مدينة خيالية لا تنتمى لأى واقع، البعض تحدث عن أن المالك المصرى الذي يُعتقد أنه اشتراه في الستينيات من القرن الماضى، من ملاكه الذين كانوا حتى هذا الوقت من الأجانب، حيث كان اسمه بار «الكاب دور» إلا أن هذا المصرى كان مُصممًا على إغلاقه كل يوم جمعة، ربما تحت وطأة الإحساس المؤقت بالذنب؛ لذلك أطلق عليه الناس هذا الاسم المخادع «الشيخ على» الذي بات يعطى المكان ميزة إضافية كأنك لا تكتفى بمتعة السُكْر فقط، بل وفوق ذلك تضيف إليها متعة تناول الخمر في مكان يملكه «الشيخ على».
كما يذكر بار «إيليت» الذي يقول عنه: «عاش هذا المكان الذي تأسس من طراز خاص نحو ١١٥ سنة، لكنه شهد سنوات اضمحلال خلال شهور كتابة هذا الكتاب مع الأسف، فقد زرناه قبل أن تضربه يد التغيير الضربة الموجعة، عام ٢٠١٤ حينما تم التفريط في جزء من المطعم القديم لصالح «محل عصير» الأمر الذي يُنهى الأسطورة الأثرية التي كانت نهاية مؤسفة»، كما يتحدث عن أهمية البار، وأنه يكاد أن يكون معرضًا للفن التشكيلى حيث زاره الكثيرون جدًا من الفنانين التشكيليين العالميين والمصريين مثل سيف وأدهم وانلى، كما زاره زوربا والشاعر كفافيس كذلك.
كتاب بارات مصر من أهم الكتب التي صدرت في الآونة الأخيرة للتأريخ للمزاج العام للمصريين من خلال البارات، لكنه للأسف شابه الكثير جدًا من النقص بتجاهله للمئات من البارات المهمة في مصر.