رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مشنوق بـ"رباط الجزمة"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تذكرتُ مقطعًا من قصيدة قديمة لشاعر مغمور (يكتب بالعامية المصرية) وقاطَعَ الشعر منذ زمن، كان يقول فيه: «خلاص/ وهاموت ومشنوق برباط الجزمة الـ(Red Wing)/ وهاعلق جثة نفسى ف جيبى المخروم/ من كتر ما شال فى قصايد/ وأتحزم بالناس فى مظاهرة سلمية/ تنادى بوقف نزيف الشعر».
أما الشاعر السابق فهو (الفقير إلى الله) كاتب المقال، وقد اخترت لسببين رمزية الحذاء الـ«Red Wing» فى قصيدتى القديمة، أولًا لأن هذا الحذاء (قبل ربع قرن) كان عنوانًا للجاذبية ودليلًا على قمة «الشياكة»، لم ينافسه إلا الحذاء الإنجليزى الـ«Clarks»، وكانت لا تتحقق الأناقة إلا مع ارتداء نظارات الشمس «Ray Ban»، ويكون بنطالك من الـ«Jeans» بـ«ماركاته» الكثيرة التى أذكر منها «Wrangler» و«Lee» ومعها بالطبع الـ«T-Shirt» الذى يكون إما «Lacoast» أو «Benetton». ومع اكتمال كل عناصر «الطقم» تصل للصورة المثالية للشاب العصرى (من وجهة نظرك بالطبع)، وهو المعنى نفسه الذى اختزلته الأجيال التالية فى كلمة «روش».
أما السبب الثانى لاختيارى رمزية الحذاء الأمريكى الشهير (Red Wing)، الذى أهدانى إياه والدى متعه الله بالصحة والعافية، فلأنه يدمج معنى السلطة ويصطاد عصفورين برمز واحد، وهما سلطة الأب وسطوة الحاكم الأوحد للعالم، مع إدراكى بالطبع للفارق الكبير بين السلطتين، لكن فى جذوة الشباب وفورانه واندفاعه «كل شيء يجوز»، وفى كل الأحوال كنتُ سعيدًا بقصيدتى المتمردة، الثائرة، التى كتبتها فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى وكان عنوانها.. «خلاص».
تذكرتُ كل ذلك كأنه مشاهد سينمائية، بعد أن شكلت الدموع فى عينى مرايا داخلية عزلت نظرى عن إكمال الخبر الذى دفعنى لنفق الذكريات دون تمهيد. جففتُ عينى لأكمل قراءته مشدوهًا غير مصدق، ورغم أن الخبر كان مدفونًا فى ركن معتم من الصحيفة، فإننى التقطته بفعل «نوستالجيا» القصيدة القديمة، كان عنوان الخبر صاعقًا: «وفاة طالب مشنوقًا برباط حذائه»، ما أقسى أن يهذى خيالنا بفكرة مجنونة، وتتحقق فجأة بعد أكثر من ٢٠ عامًا.
اعتصر الحزن قلبي، وأنا أقرأ تفاصيل خبر وفاة الطالب «أحمد مطيع» بالمرحلة الإعدادية (١٣ عامًا) فى حى شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية (شمال العاصمة القاهرة)، بسبب معاقبة والده له على استيلائه دون علمه على خمسة جنيهات (أقل من نصف دولار أمريكي)، وقد خففت الصحف وصف فعل الطالب المشنوق، ولم تسمِّه بالاسم الأنسب، وهو أنه قد «سرق» والده.
ولم يكشف لنا الخبر نوع العقاب الذى تلقاه الطالب المتوفّى (المنتحر)، والذى كان دافعه ليتخلص من حياته منتحرًا شنقًا بـ«رباط الجزمة» بعد أن ثبَّتَه (الرباط) فى «جنش» بسقف الغرفة، وإن كان يبدو أنه عقاب مؤثر ومحطم لمعنوياته، أما قيمة المبلغ محل العقاب فهى مثيرة للشفقة، وتعكس ببساطة حالة فقر موحشة تعانى منها هذه الأسرة التى ربما لو كانت تعيش فى ظروف مادية أفضل، ما كان الأب قد انفعل بقسوة (متخيلة) ليعاقب ابنَه على فعلته، ومن ثم انتحر كردّ فعل على هذا العقاب.
أرجو ألا تكون قصتى دافعًا لأن نترك الأمر لأولادنا ليستولوا على ما يشاءون من أموال دون علمنا، ونغضّ الطرف ولا نعاقبهم، حتى وإن كنا على حال نقيض من أسرة الطالب المشنوق، وننعم من فضل الله برغد العيش.
لكن القصة تركتنى حائرًا، لا أدرى وأنا أربى أبنائى فى هذا الزمان المضطرب والمنفتح، كيف أعاقبهم؟ ومتى؟ وما نوع العقاب المأمون؟ ولأى سن يحق لى كأب أن أعاقب أبنائي؟ وهل تكفل الإجابات النموذجية على أسئلتى السابقة الضمان بعدم انتحار الابن؟
وأى إجابة لن تطمئن القلوب، كلنا نشقى، آباءً وأمهات، مع إشكاليات التربية المناسبة لأبنائنا فى هذا العصر، تطاردنا مقارنة غير منصفة مع الشكل التقليدى الذى تربينا عليه، رغم أن دورنا أصبح هامشيًا فى عملية التربية، بعد أن تعاظمت أدوار المؤثرات الخارجية وتراجع دور الأسرة وانحسر.
ومع كل هذا، لا مجال لأن نستسلم، ومثلما اجتهدنا فى سنواتهم الخمس الأولى بالحرص الشديد على تطعيم أطفالنا بكل الأمصال المتاحة والمعروفة لحمايتهم من الفيروسات والأمراض، علينا أن نكمل جهادنا فى سنواتهم التالية ونعمل على تطعيمهم بالأخلاق المحصِّنة من فوضى الأفكار.
حفظهم الله وأعاننا.