رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رحيل الكبار في "جملة مفيدة"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يغرقنا موت الأساتذة الذين تعلمنا منهم وزرعوا فى عقولنا بعض خبراتهم وأفكارهم، فى دوامة المعانى المؤرقة.. يشطرنا بين الحزن عليهم (من افتقدناهم بالفراق) والخوف عليهم (من سيفتقدوننا يوما ما لرحيلنا).
يشعرنا موت الكبار بأن العمر تقدم بنا، وأن الأيام قد تسربت بين أيدينا دون أن ننتبه.
يضعنا افتقاد «الكبير» أمام المسئولية الكبيرة.. فنجد أنفسنا تحت حصار الفكر والقلق.. نبحث بين سطورنا عن «جملة مفيدة» يمكن أن نفخر بأننا قد تركناها لأشقائنا الصغار وأبنائنا ليترحموا بها علينا، مثلما نترحم على كبيرنا الذى مات، الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل الذى أدعو الله له بالمغفرة، وأن يتغمده برحمته، بقدر ما تعلمنا منه.
فالأستاذ هيكل هو المدرسة الأهم فى تاريخ مهنة الصحافة، التى تربينا فيها (وإن لم نعلن)، وتأثرنا بها (وإن أخفينا ذلك).. لقد عرفنا معنى مهنتنا (الجورنالجي) منه ومن كتاباته، فمشينا مسحورين خلفه نستطلع تعاليمه وآراءه، ونفهم منه أسرار «الصنعة» التى كان واحدًا من آبائها ومؤسسيها الكبار، وكان رائدًا فى «تمصيرها»، بعد أن وصلتنا عبر الأجانب والشوام، لا يقل دوره فى ذلك عن الأساتذة الراحلين محمد التابعى، ومصطفى وعلى أمين.. جميعهم عاش ومات عاشقًا لصاحبة الجلالة «الصحافة»، وخادمًا فى بلاطها، مجددًا لكل فنونها، ومشيدًا لأبدع تجاربها وصحفها ومجلاتها.
ورغم إجماع أبناء المهنة على تقدير أدواره المهنية، فإننا انقسمنا بين عاشق له وناقم عليه بسبب آرائه ومواقفه وأدواره السياسية. ولكن لم يقدر أحدنا يومًا أن ينزع عنه لقب «الأستاذ»، لأنه حفر بداخل كل منا حرفًا أو حروفًا، وشكل فى وعيه جملة أو جملاً، فصار تلميذ هيكل حتى لو أنكر وتعالى.
أستاذى الراحل حسنين هيكل..
أقف أترحم عليك أمام مكتبتي، أتأمل مجموعة كتبك الكاملة التى جمعتها عبر سنوات عمري، وكنت أتمنى لو تعرف كم كلفتنى كى أجمعها كاملة وأقرأها كاملة، فأنا يا أستاذى آخر أجيال تلاميذك الذين قرأوك على الورق بعد أن دفعوا «تحويشة مصروفهم» كى يشتروا كتبك «الغالية» عليهم، وقت أن كانوا فى أول المشوار.
وقفت مع كل عنوان أتذكر تاريخ الشراء وشغف اللقاء.. وبقايا أفكاره بداخلي، لتتوالى العناوين المهمة أمامي: «حرب الثلاثين سنة (سنوات الغليان - ملفات السويس - أكتوبر ٧٣ بين السلاح والسياسة)، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل (٣ أجزاء)، العروش والجيوش (جزآن)، لمصر لا لعبد الناصر، الانفجار، بين الصحافة والسياسة، المقالات اليابانية، سقوط نظام، مصر والقرن الواحد والعشرين، أزمة العرب ومستقبلهم، مبارك وزمانه، مصر إلى أين؟».. و٣ كتب حملت عنوان «كلام فى السياسة» احتوت على مقالات الأستاذ المنشورة فى مجلة «وجهات نظر» (بين عامى ٢٠٠١ و٢٠٠٣ على ما أتذكر).
أما كتاب «خريف الغضب»، فقد كان نقطة تحول كبيرة سهلت انضمامى لمعسكر الرافضين لكثير من مواقف «هيكل» السياسية، وبعده قررت التعامل بحذر مع كتابات الأستاذ، وأعملت حاسة النقد الموضوعى لآرائه وأفكاره.. المفارقة أن هذا الكتاب لم أدفع فيه «قرشا»، فلقد تذكرت اليوم فقط أننى استعرته قبل أكثر من عشرين عاما من صديقى العزيز الصحفى والإعلامى المحترم سمير عمر (ولم أرده له حتى اليوم)، وربما يكون من حقه عليّ أن أشكره على الكتاب (مع وعده بأى تعويض يطلبه)، لأنه (الكتاب) صحح علاقتى مع الأستاذ هيكل، ووضعها فى المسار الطبيعى بعيدا عن الإسراف والمبالغة فى تقديس الرموز والأساتذة، وربما كان كتاب (الخريف) الحاجز النفسى الذى منعنى من تفعيل التواصل مع الراحل (مثل كثيرين من زملاء المهنة)، حتى فى المرات القليلة التى شرفت بوجوده فى نفس المكان، سعيت ألا أزيد عن المصافحة السريعة، كى لا أربك الصورة التى حرصت على بهائها فى خيالي.. لـ«الجورنالجي» الأستاذ الذى أسهم مع جيل الآباء فى صناعة مهنة الصحافة فى مصر، وأسهم فى صناعة عقولنا وأفكارنا العربية أكثر من نصف قرن من الزمان.
رحم الله أستاذنا وكبيرنا.. وغفر له.. ولنا.