الأربعاء 22 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

ثروة الأستاذ هيكل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
غابت شمس هيكل.. كانت هذه الحقيقة التي استيقظ المصريون عليها منذ ساعات، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الأقلام عن سرد مواقف الرجل ما بين مترحم عليه ومتشفٍ فيه.
وفي الواقع فإن نجاح الأستاذ محمد حسنين هيكل يرجع إلى عدة أسباب أهمها أن لديه حلمًا، أثقله بالمعرفة، فتكونت عنده رؤية وضع مصر في القلب منها، ثم بدأ يغذيها بحوارات ولقاءات مع مسئولين كبار جابت الكرة الأرضية، وصنعت له شهرة عالمية امتدت على مدار عمرة الطويل.
في بداية حياته لم يكن هيكل ثرياً، لكن طموحه الشخصي وإصراره على النجاح وفراسته الشديدة في الإحساس بالبشر جعلته في المقدمة دائما فقد كان لديه قدرة على قراءة الأشخاص، ولذلك كان اقترابه من الزعيم الراحل عبد الناصر مبكرا ، لقد قرأ الرجل، وشعر أن الرجل الذى أرسله القدر في لحظة نادرة من التاريخ ليغير شكل مصر، وأحس عبد الناصر به أنه أمام شخص أمين على أفكاره ومطور لها، وكان إحساسه صحيحا، لأن هيكل نجح في صياغة مشروع عبد الناصر وقدمه لأجيال جديدة لم تعاصره، أيا كان اتفاقك أو اختلافك معه.
كثيرا ما أقف عند موهبته الاستثنائية، التي تجلت في اختياره للفظ النكسة في هزيمة 1967 التي رواها للأستاذ عبد الله السناوى.. قال هيكل وهو يسترجع تلك اللحظة التاريخية القاسية «انفردت بنفسي لأكتب خطابه الأخير وفى خاطري أن أحلامنا الكبرى انهارت.. فكرت في عبدالناصر وآلامه فوق طاقة بشر، وكأنه كبر مرة واحدة عشر سنوات، كان صادقا في مشاعره وتصرفاته معتقدا أنه خذل أمة أولته ثقتها كما لم تفعل مع أحد آخر، شعوره بالمسئولية كان طاغيا، قرر أن يتنحى وطلب منى أن أكتب ما اتفقنا عليه من خطوط عريضة، وكنت الوحيد الذى التقاه على انفراد لوقت طويل قبل خطاب التنحي.. وفكرت فى الشعب الذى سوف تصدمه نتائج المواجهات العسكرية في سيناء، لم أكن مستعدا لكتابة كلمة الهزيمة، ومازلت معتقدا أننى كنت على صواب، كيف أكتب أنها هزيمة والجبهة السورية تقاتل والعراق يرسل قوات عسكرية إليك والجيش المصري نفسه مازالت بعض قواته فى سيناء، كان اعتقادي أننا أمام عثرة مؤقتة، وإن كان عبدالناصر لا يستطيع أن يستكمل دوره في القتال فإن أحدا آخر يستطيع، لكن شعبه خرج يومي (٩) و(١٠) يونيو إلى الشوارع يطالبه بالبقاء ويعرض المقاومة ومواصلة القتال».. «للتعبيرات قوة تأثيرها في حركة الأحداث، عندما تقول هزيمة فإن كل شيء قد انتهى وعليك أن تقر بما جرى وتستسلم له، بينما تعبير النكسة ساعدنا على لملمة جراحنا، ودخلت قواتنا المسلحة بعد أيام أحد ملاحمها الكبرى في معركة رأس العش».. وتسألني بعد ستة وأربعين عاما كيف طرأ على ذهني مصطلح النكسة، وأنا أقول لك أمينا إنني لا أعرف، وأظنها مشاعر مواطن لا يقدر على إغلاق أبواب الأمل فى المستقبل أمام شعبه.
كان لعلاقات هيكل الدولية برؤساء تحرير الصحف الأجنبية ودور النشر سبب في تعاظم دوره ووفر له مناخا فريدا لم يتكرر أن ينتقل بالإعلام المصري إلى آفاق العالمية، وتمكن مع مرور الوقت من التأثير فيها بكتبة الوثائقية، التي كان يكتبها بأسلوب مدهش تمكن فيه من تطويع اللغة وصياغة معانٍ لم يتمكن أحد من تقليدها أو الاقتراب منها، عكست روح الشاعر المختبئ بداخله طوال الوقت، كما بنى الأهرام الحديثة على استلهام تجارب الإعلام وآخر تطورات عصره ووضع نظاما تحريريا صارما وضع الأهرام في مصاف كبريات الصحف العالمية لتعبر عن مصر والشرق الأوسط كله في وقتها وجزء أصيل من قوة مصر الناعمة.
اختلف هيكل مع نظام الرئيس السادات، وكان ضد عملية السلام، خاف على ميراث الدولة المصرية العربي، وخشى على انتصار القوات المسلحة ، اختلف مع السادات، ولم يختلف مع مصر، وبعد سنوات طويلة وجدنا الأستاذ هيكل يفاجئنا أن السادات اتخذ القرار السليم، وأن مراجعة الأفكار جائزة، هكذا ببساطة وافق الأستاذ على السلام على الطريقة المصرية.
تمرس الأستاذ على إثارة الدهشة بمعلوماته الصادمة، أصاب في بعضها وجانبه الصواب، اتهم الرئيس السادات بدس السم للرئيس عبد الناصر، وهو ما أثار أسرته، ثم أشار إلى لون بشرته في كتابه خريف الغضب، وكانت سقطة أخلاقية، ثم تحدث عن ثروة الرئيس مبارك وأنها 70 مليار وفى النيابة قال إن معلوماته جاءت من مواد صحفية منشورة ثبت أنها لم تكن صحيحة.
كان دخول أولاده مجال البيزنس عبئا كبيرًا عليه ووضعته في مرمى النيران باستمرار، حينما بدأ يهاجم، وينتقد نظام الرئيس مبارك، وكانت إثارته لموضوع التوريث في الوقت الذى أعلن فيه عن شراكة أولاده لجمال مبارك في شركة هيرميس للأوراق المالية لغزا كبيرا ، فكيف يمكن التوازن بين الاثنين، وتناثرت أقاويل حول ضغط أولاده عليه، ثم إصراره على الاستمرار، كيف صنع هذا التوازن بين مصالح أولاده وبين الجورنالجى؟.. الإجابة ذكاؤه وخبرته وما واجهه وقوة شخصيته وعلاقاته وحساباته.. أمور لم تتوفر لغيره، ولذلك انطبق عليه لفظ الأستاذ.
لا يمكن اختزال الأستاذ هيكل في مقال قصير، لقد كتب عنه كتب ودراسات جامعية في كبريات المعاهد والكليات، وسيظل، لكن ما يهمني هو الحفاظ على تراث وثروة الأستاذ هيكل.. وثائقه وأوراقه الخاصة، وكتبه ولقاءاته التليفزيونية، ويومياته، لأنها قطعة من تاريخ مصر المعاصر أرجوا أن ننتبه لها، ومؤسسة هيكل ونقابة الصحفيين ووزارة الثقافة ومؤسسة الأهرام ودار الوثائق مطالبين بالحفاظ على هذا التراث العظيم، فتلك ثروة حقيقة للدولة المصرية في الأساس وللراحل العظيم، فهذا الرجل أستاذ لكل العاملين في مهنة الإعلام في الحاضر والمستقبل.