الثلاثاء 04 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

"هيكل"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«خريف الغضب» هو أول كتاب قرأته لمحمد حسنين هيكل. 
خلال السبعينيات اختفى الرجل من ساحة الصحافة والسياسة المصرية عقب صدامه مع الرئيس أنور السادات ورحيله عن «الأهرام»، وحلول كتاب آخرين يساندون ويروجون للسادات وسياساته المثيرة للجدل، ولكن اسم هيكل كان مبجلا ومعشوقًا لدى الناصريين واليساريين، وهؤلاء كانوا أكثر المتحمسين لكتابه «خريف الغضب» الذى يصب فيه جام غضبه على السادات. وهكذا، عندما انضممت إلى «حزب التجمع» اليسارى فى النصف الأخير من الثمانينيات سمعت عن كتاب «خريف الغضب» واستعرته من أحد الأصدقاء وزملاء الحزب الأكبر سنًا.
بغض النظر عن مضمون الكتاب، أبهرنى أسلوب هيكل الأدبى وقدرته الهائلة على تقديم وترتيب وتحليل المعلومات وعلى طرح أفكاره بوضوح...أما العنف الذى يحتويه، وأما الانحياز الذى يخاصم الموضوعية أحيانًا، وأما الانفعال الصاخب والساخن فى مفرداته وتعبيراته، فلم تقلل من إعجابى بالكتاب، بل على العكس كانت تتماشى مع عقلى المراهق وميولى السياسية الراديكالية.
كان هيكل، وربما لم يزل، أيقونة حية للناصريين بالأخص، ولليساريين بشكل عام، ولكن بعد أن تخطيت مراهقتى الشخصية والسياسية بقى هيكل، ولم يزل، بالنسبة لى، قامة ممتدة ومثلا أعلى ونموذجًا حيًا لما يجب أن يكون عليه الصحفى والمفكر والمحلل والكاتب بشكل عام.
فيما بعد قرأت العديد من كتب هيكل الأخرى، وحرصت على متابعة مجلة «وجهات نظر» التى دأب على كتابة المقال الافتتاحى لها حتى مقاله التاريخى «استئذان فى الانصراف» عام ٢٠٠٣، العام الذى وصل فيه إلى سن الثمانين، وأعلن فيه اعتزاله الكتابة، ربما يأسًا من عصر مبارك وقمعه، وفى كل هذه الكتب والكتابات كان هيكل مصدرًا لا ينضب للمعرفة والتعلم ومتعة القراءة.
لا يهم نوع الموضوع الذى يكتب فيه هيكل.. هل هو تحليل لوقائع العدوان الثلاثى من خلال وثائق المخابرات البريطانية، أم سرد لرحلته إلى إيران السبعينيات، أم حكايات «خفيفة» عن علاقة عبدالناصر بمثقفى وفنانى عصره، مهما كان الموضوع الذى يكتب فيه هيكل فإن كتابته تتسم بالعناصر التالية التى يجب أن يتعلم منها كل من يمتهن الكتابة:
- المعلومات الموثقة بالتواريخ والأماكن وشهادات الذين تخصهم المعلومة.
- السرد السلس والترتيب المنطقى للمعلومات والوصف الكافى والدقيق للتفاصيل.
- الثقافة الواسعة ليس فقط فى السياسة ولكن فى شتى مجالات المعرفة والأدب، وقدرته على الاقتباس والتضمين لهذه المعارف العامة فى مقالاته السياسية، وهو ما يرقى بها إلى مصاف الكتابة الأدبية ويعصمها من الوقوع فى جفاف وبرودة التحليل السياسى المحض.
- علاقته المباشرة بالشخصيات المهمة فى مجالات السياسة والمجتمع والثقافة والفن، وامتلاكه لعين صحفى ماهر فى وصف هذه الشخصيات وتفاصيل سلوكها والتفاصيل المحيطة بالمكان والحدث.
- التحليل الذكى وفقًا لخطة محكمة يبدأ وينتهى بها المقال أو فصل الكتاب، بحيث يبدو كوحدة موضوعية متكاملة ووافية، وبحيث يشكل هذا المقال أو الفصل جزءًا لا يتجزأ من فكرة وخطة العمل كله.
يندر جدا فى أعمال هيكل أن تجد حشوًا يمكن الاستغناء عنه، أو نقصًا فى جزء كان يستدعى المزيد من المعلومات أو التحليل، أو أن تجد تكرارًا لا داعى له، أو اضطرابًا وتشوشًا فى الرؤية.
- صفة أخرى تتسم بها كتابة هيكل هى قدرته اللغوية الجبارة، سواء فى ثراء مفرداته واستخدامها فى المكان المناسب أو فى تركيبة الجملة والفقرة بشكل دقيق كما لو كانت بناء معماريا محكما، لا يختل مهما قصرت أو طالت هذه الجملة أو تلك الفقرة.
فى الأول وفى الآخر ينتمى هيكل، المولود عام ١٩٢٣، العام الذى حصلت فيه مصر على أول دستور لها بعد قرون من الاحتلال، إلى جيل من العمالقة فى الأدب والفن والصحافة والسياسة، وإلى عصر نهضة عميقة وشاملة فى المجتمع المصرى، كان التعليم فيها تعليمًا بحق، والصحافة صحافة بحق، والحياة السياسية حيوية بحق.
جيل هيكل، الذى أصبح صحفيًا قبل أن يكمل عامه العشرين، يضم أسماء بحجم نجيب محفوظ فى الأدب وعبدالوهاب وأم كلثوم فى الغناء والتابعى ومصطفى وعلى أمين فى الصحافة.. جيل تفتح وعيه على الاعتزاز ببلده وتاريخه وقيمته وعلى الثقة المطلقة فى قدرته ومستقبله.. جيل يؤمن بالمعجزات قادر على صنع المعجزات كل فى مجاله.
لم تكن مصادفة أن يتحول محفوظ إلى أديب عالمى، ولا أم كلثوم إلى مطربة عالمية، وكذلك لم تكن مصادفة أن يصبح محمد حسنين هيكل هو المحلل السياسى العربى الوحيد الذى تترجم أعماله إلى عشرات اللغات العالمية.
هذا جيل تربى على المناداة بالحرية والعيش بحرية فى زمن الليبرالية والديمقراطية السياسية.. حتى لو كانت هذه الحرية منقوصة بحكم وجود الاستعمار الإنجليزى والنظام الملكى الإقطاعى والتفاوت الكبير بين الطبقات، ولكن المجتمع بأسره كان يقاوم ويناهض الاستعمار والطغيان والظلم الاجتماعى. 
كانت ثورة يوليو ١٩٥٢، أو «حركة» الضباط التى احتضنها الشعب وصنع منها ثورة، هى ذروة هذا النضال الممتد، وكان هيكل فى قلب هذه الثورة، مراقبًا وفاعلًا وصديقًا مقربًا وناصحًا لرجالها. وكان الانتصار على العدوان الثلاثى هو الفصل الأخير من هذه النهضة الممتدة منذ العشرينيات، وبداية تاريخ آخر من القمع والرجعية بدأت بهزيمة ١٩٦٧، ولم تنته بثورة يناير ٢٠١١، التى كانت صرخة حرية وكرامة هائلة ضد التخلف والفساد والظلم الاجتماعى.
ربما ظل هيكل أسيرًا لسنوات الليبرالية الأولى، وربما ظل أسيرًا لسنوات قربه من السلطة فى عهد عبدالناصر، ولكنه سيظل دائمًا أستاذًا لكل من أراد تعلم الصحافة والكتابة والتحليل السياسى.