الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عالم ما وراء السد.. والبحث عن الطمي المفقود

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تقول صفية إحدى شخصيات روايتى «استقالة ملك الموت»
- ندمى على ما لم أفعل، لا ما فعلت. 
وها أنا أتمثل مقولتها للمرة الثانية فى حياتى، فبعد أن عدت من سويسرا، ندمت أنى لم أتذوق مياه بحيرة جينيف، كان الأمر متاحًا لو فكرت أو أردت وقتها، فقد قمنا بجولة فى قارب فى البحيرة، وكانت المياه فى متناول اليد، بل وتتناثر أحيانا على وجوهنا عندما يتباهى القارب بسرعته العالية.

يحدث الأمر نفسه لى الآن بعد عودتى من رحلة ما وراء السد، والبقاء خمسة أيام فى قلب البحيرة الصناعية الأكبر فى العالم، وهى صناعية لأنها نشأت كخزان يحجز مياه نهر النيل المتجمعة خلف السد العالى، وهى تتبع نفس مسار النهر القديم، وتزيد عليه فى الاتساع حتى يصل عرضها فى بعض النقاط ٣٥ كم ولا يقل عرضها عن ١٢ كم، طول البحيرة ٥٠٠ كم يقع منه ٣٥٠ كم فى الأراضى المصرية، وهو الجزء الذى يطلق عليه بحيرة ناصر تيمنًا بالرئيس جمال عبدالناصر الذى مازالت استراحته التى كان يقيم فيها ويتابع منها أعمال بناء السد من عام ١٩٦٤ حتى وفاته عام ١٩٧٠. والجزء المتبقى من البحيرة يقع داخل حدود السودان ويطلق عليه اسم بحيرة النوبة. 
لماذا لم أمد يدى وأتذوق ماء البحيرة، وقد رسونا على جانبها الغربى أكثر من مرة. كانت الباخرة تستقر فى مرساها، وننتقل للشاطئ بقوارب صغيرة على دفعات، جعلنى اتساع البحيرة الكبير أتخيل أننى أمام شاطئ بحر، كذلك مشهد الرمال الممتدة، واللامتناهية كجزء من الصحراء الغربية، تلال وكثبان رملية تتنوع درجات ألوانها بين الأصفر والبرتقالى المحمر، أحجار صلدة وأخرى جيرية، رمال، رمال تحيط بك وتكاد تغرق فيها.. كنت قد قرأت أن العلماء عندما درسوا حفنة من رمال الصحراء وحفنة من رمال شواطئ البحار والأنهار، وجدوا أن رمال البحار والأنهار أنعم وأقل استدارة من رمال الصحراء، حيث إن رمال الصحراء تلفحها الرياح فتظل تتضارب مع بعضها البعض، ولهذا تصبح مستديرة أكثر من رمال البحر والأنهار المحمية بالماء.. والأهم أن اللون الأخضر كان غائبا كثيرا.. يا الله.. ليس هذا تصورى عن المياه العذبة والبحيرات، عندما نسير بالسيارة بجوار النيل أو أى من فروعه فى الدلتا نرى الخضرة على جانبيه، مزارع وحقولًا ونباتات أعرفها أو على الأقل أعرف ثمارها، لكن وادى أو شاطئ البحيرة كان قاحلًا، تبدو رماله مجهدة، متنافرة، متفككة لا رابط بينها، فى حين يبدو الطمى الأسود على ضفتى النهر متماسكًا، سخيًا، مشبعًا، لم يكن هناك ما يوحى لى أن هذه المياه عذبة حتى أنى لم أفكر فى أن أختبر عذوبتها.
ظل الأمر غائمًا فى روحى، غير متبلور فى سؤال أو فكرة حتى زرنا «معبد الدر» على بعد ٢٠٠ كيلو جنوب السد.. فى طريقنا للمعبد رأيت على شاطئ البحيرة بعض الأشجار لكنها، كانت أشجار شوكية والأدهى أن بعضها غطاه العنكبوت تمامًا، شجر وعنكبوت، العنكبوت رمز للخراب، للموت والشجر هو الرخاء، الحياة، كيف لهما أن يجتمعا؟ على الأرض كانت تمتد سوق خضراء وثمار لنبات الحنظل، ونباتات السيناميكى والسواك والمريمية، وأنواع أخرى لا أعرفها، تجمعات نباتية صغيرة جدًا لا توحى بعذوبة الماء، بل بالجفاف ورداءة التربة.. هنا فقط تبلور السؤال: كيف لم تستطع مياه البحيرة أن تغير هذه الطبيعة الصحراوية، أن تحولها إلى بيئة صالحة للزراعة؟ أين طمى النيل الذى سبق وكون وادى النيل ودلتاه؟.
صرت أبحث عن الطمى، عن ترسيباته، وكان لدىّ يقين أنه موجود، فقط عيناى لا تراه، اتهمت حواسى، ولكنى لم أسأل رغم أسئلتى الكثيرة لمرشد رحلتنا الباحث والكاتب الروائى أحمد الصغير. ولم أطرح هذا الموضوع للنقاش على أصدقاء الرحلة الذين كنا نتجمع حول مائدة واحدة للوجبات الثلاث، دكتور عمرو عافية الطبيب والروائى ووالدته وصديقه أدهم، والمهندس عمر عبدالعزيز وزوجته الأنيقة مدام منى، وحفيدتهما ملك التى صادقت ابنتى مريم منذ التقينا أول الرحلة فى مطار القاهرة متجهين لأسوان، كان السؤال يطن فى أذنى: أين الطمى؟ أين الطمى؟ وأنا أخبئه بمهارة من تعودوا أن يحتفظوا بابتسامة على وجوههم تشوش على ما عداها، كنا نسترجع على المائدة ما رأينا من آثار ونتحسر على العظمة الفرعونية التى لم تتسرب إلينا، كنا هناك حيث كل شيء كان مثاليًا.. التاريخ، والطعام، ومفاجآت طاقم الباخرة لنا.
مرات قليلة عدنا فيها للحاضر، ونحن مجتمعون على سطح الباخرة ليلا لنشاهد بقايا آثار قلعة أبريم التى تقع على بعد ستين كيلومترًا شمال شرق أبوسمبل التى كانت مقامة على تل شرق الوادى وتحول قصر أبريم إلى جزيرة فى وسط نهر النيل بعد بناء السد العالى ، وبذلك تعتبر قلعة أبريم هي الأثر الوحيد الذى بقى فى مكانه ولم ينتقل إلى مكان آخر.
نبهنا مرشد الرحلة أن الاضاءة القوية التى نشاهدها إلى الغرب، هى إضاءة محطات رفع المياه فى مفيض توشكى.. يا الله هل توشكى حقيقة؟ نعم حقيقة. يقع فى الصحراء الغربية؟.. على أن أعيد ترتيب رأسى جغرافيًا فقد كنت أعتقد أن مفيض توشكى يقع فى شرق الوادى أو البحيرة، وكان يرتبط فى ذهنى بطريقة ما غامضة بجبال البحر الأحمر.. توشكى.. ليست مجرد أرض وقع فى هواها المسئولون، فقرروا تعميرها دونًا عن بقية الأراضى على جانبى البحيرة. 
يحكى مرشدنا: «أن مفيض توشكى أو بحيرات توشكى، هو مفيض طبيعى لتصريف المياه الزائدة خلف السد العالى بأسوان، ووجوده ساعد على إنشاء مشروع توشكا القومى الموجود الآن فى منطقة توشكى بمدينة أبوسمبل السياحية جنوب محافظة أسوان. وقد دخلت المياه إلى مفيض توشكى لأول مرة فى ١٥ أكتوبر ١٩٩٦ حيث وصل منسوب المياه أمام السد العالى إلى ٥٥ .١٧٨ متر».
إذًا هم لم يختاروها ولكن القدر من اختارها وماذا فعلنا نحن، صرفنا المليارات ممن الجنيهات ولم نستكمل المشروع.. توشكى مشروع ممتاز ورائع على الورق، وادٍ جديد، زراعة لاستصلاح واستزراع ٥٤٠ ألف فدان حول منخفضات توشكى، وذلك من خلال تخصيص هذه الأراضى لمستثمرين ولشركات تابعة للدولة، فى إطار خطة الدولة لتوسيع رقعة المساحة المعمورة من ٥ ٪ إلى ٢٥ ٪ من مساحة مصر. وتم تحديد عام ٢٠١٧ كموعد للانتهاء من المشروع. وها نحن فى فبراير ٢٠١٧ وما تم بالفعل هو زراعة ١٨ ألف فدان فقط، لماذا لم تنفذ الجهات الاستثمارية وعودها باستصلاح الأرض؟ ما المعوقات؟ لا أعرف.
لم أرفع الراية البيضاء، سأجد بنفسى، سأرى مظهر وجوده، ستفاجئنى غابة هنا أو هناك مزرعة صغيرة.. ماذا لو أن الكل يراه وأنا الوحيدة التى عميت بصيرتها، ظل موضوع الطمى سرى الذى يثقل قلبى حتى عودتى للقاهرة، وفى كل ليلة كنت أحلم بطفلة صغيرة تقلب فى كوب شاى ورواسبه تفيض وتفيض حتى تغرقنى.
وبحثت فى الموضوع وكان مرجعى كتاب د. رشدى سعيد «نهر النيل»، بسرعة أتصفحه، أترك صفحات النيل القديم بمراحله التاريخية ما قبل ملايين السنين والنيل الحديث، أصل للفصل الثالث والأخير ومن بين سطور عنوانها الخزان أقرأ وأخط وأحفظ وأقتبس «حجز السد العالى الطمى الذى كان يحمله النهر كل عام مع الفيضان، ويمنعه من الوصول إلى أرض مصر الزراعية أو إلى البحر المتوسط. فمنذ عام ١٩٦٤ عندما بدأ حجز المياه وراء السد بدأ هذا الطمى فى الترسيب فى بحيرة ناصر، وقد ملئ ذلك النطاق من الخزان الذى كان مخصصًا له والمسمى بالمخزون الميت والذى ينتظر أن يملأ لتمامه فى غضون أربعمائة عام»، هذا الكلام مقدمة تستدرجنى للأهم أين طمى البحيرة؟
«وقد أظهرت الدراسات الميدانية أن الطمى الذى دخل البحيرة لم يوزع بانتظام على طول قاعها كما كان متوقعًا، بل تكدس معظمه عند مدخلها عند موقع الشلال الثانى حول مدينة وادى حلفا القديمة، حيث بلغ سمكه حتى عام ١٩٧٧ حوالى ٢١٥ مترًا ويقل سمك عمود الطمى تدريجيًا ناحية الشمال حتى يصبح أقل من متر عند أبوسمبل، ثم يكاد أن ينعدم وجود الطمى أصلًا إلى الشمال من تلك المنطقة».
يا الله.. البحيرة ماؤها رائق بلا طمي! حيث كنت أبحث، كان ماء البحيرة بلا طمى.. أى خيبة أصابتنى وأى أمل فقدت، لكنها الحقيقة والمعرفة التى أتمنى ألا تعمى بصيرتى. 
وللرحلة بقية.
إنهاء الدردشة