رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الوضع جلوسًا.. بين ندرة الخيارات ووفرة الفراغات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى غياب معايير موضوعية، لا شك أن ندرة الخيارات المتاحة، أو المستخدمة بالفعل، محل معضلة كبيرة تواجه التجربة المصرية فى سعيها صوب تجسيد الطموحات الثورية التى أعلت من شأنها ثورتنا «الأم» فى الخامس والعشرين من يناير، وتمسك بها الشعب، فهب يستعيدها فى موجة ثورية تصحيحية اتخذت من الثلاثين من يونيو عنواناً كبيراً لها.
وبداية، فى العمل الوطنى العام لا يمكن إنكار أن مساحات واسعة تبدو بالفعل خالية، ووفرة معيبة من فراغات بات التئامها لا يُنتظر فى المنظور القريب، دون مراجعات صعبة تمتد إلى نطاق أشمل، وآفاق أبعد، لجميع محاور العمل الوطنى، خاصة ونحن بصدد بناء دولة جديدة، يحسُن أن ترتكز على مفاهيم صحيحة، ورؤى موضوعية تلبى محددات العمل العام كافة.
فلا جدال أن تدخل الرئيس السيسى فى كثير من الأمور، حلاً لمشكلات استعصت على المعنيين بها، ما هو إلا مؤشر حقيقى إلى مثل تلك المساحات والفراغات غير المأهولة بكفاءات قادرة بالفعل على إنجاز مسئولياتها الوطنية على نحو فعال.
وفى هذا السياق، يمكن استيعاب الإشكالية التى يشير إليها تواجد الرئيس السيسى بشكل مباشر فى مناطق شاسعة من محاور العمل الوطنى العام، محاولاً إطفاء نيران امتدت ألسنتها هنا وهناك حتى طالت الرأى العام بعد أن خرجت من مكامنها جراء فشل لم نعلن عنه صراحة، ولم نقدم أهله للرأى العام بوضوح، سواء من غرف حزبية داخلية ضاقت عن استيعاب «الرأى الآخر» الذى تستمد شرعية وجودها من مشروعيته كقيمة ديمقراطية سامية! أو من استديوهات وسائل إعلام خاصة غارقة فى فوضى تحمل عنواناً كاذباً إذ يستتر خلف «حرية الرأى والتعبير» كحق إنسانى كفله الدستور ودعت إليه وضمنته المواثيق الدولية كافة.. وكذلك كان سعى الرئيس جلياً لحل خصومات البعض من أهل الوسط الرياضى، مرورا بمساع رئاسية شتى تستنهض أهل خطاب دينى عجز عن تجاوز إشكاليات معاصرة يؤكد بها قدرته على ملاحقة دوره المتصاعد فى بناء مجتمع جديد.
من هنا فإن معالجة ناجحة للأمر، لا يمكن الوثوق فى نتائجها دون مراجعات جادة وحقيقية، نخرج بها من «قوالبنا» الفكرية الجامدة؛ فليس يفيدنا أن نصوغ توجهاتنا صوب مستقبل أفضل عبر مقولات أثيرة توارثناها طويلاًَ، فلم تنجح فى توفير أى تقدم حقيقى على الأرض، يمكن أن نؤكد به مشروعية حيازة الشعب المصرى لكل اشتقاقات «أفعل التفضيل»، التى غالبنا بها الكثير من دوافع تحتم بذل تضحيات ليس إلا بها تنهض الأمم من عثراتها؛ إذ راج بيننا، على نحو مفرط، وبدلالات متجاوزة، كم أننا «الأعرق» بين الدول، و«الأسبق» إلى كثير من العلوم والمعارف، و«الأوفر» حظاً فى سياق كل توزيع منصف للقيم والمبادئ، وفى امتداد فاضح أننا «الأخف دماً» بين الشعوب قاطبة!
ولعل فى ذلك الطرح، ما لا أتخطى به أهمية «الروح المعنوية» كعنصر فعال فى حسابات القوة الشاملة للدولة، غير أن روحاً معنوية، تكذب فنسقط بها ومعها إن هى أهدرت قيم العمل الجاد، ومركزية المصلحة الوطنية؛ ومن ثم فهى ليست إلا خصما حقيقيا من رصيدنا على طريق التنمية، إذا ما كان بالجهد تُبنى المجتمعات وتتقدم، وتتحقق الطموحات وتنمو، وهى كذلك حقا.
وبالنظر إلى أن التاريخ بالقطع لا يصنع حاضراً أو مستقبلاً، ولا يحل بديلا مناسبا عن أسباب النجاح التى أوصت بها كل الدروس التاريخية المقارنة، ففيما سبق، لا سحب على الإطلاق من حقائق التاريخ والواقع، قدر ما فى الأمر من رغبة مُلحة فى إجراء مراجعات مخلصة، وبحث جاد عن جدارة يشرف بها كل وطنى مخلص إذا ما قُدر له أن يحمل أمانة اللحظة التاريخية الراهنة.. جدارة تشير إلى أهمية ترسيخ أواصر ذات صلة فعلية بما يواجهنا من تحديات ومخاطر؛ ومن ثم ندرك على نحو قاطع، حقيقة موقعنا، وطبيعة عناصر قوتنا الشاملة، عسانا نلتمس سبيلاً صحيحاً صوب نجاحات نؤكد بها مشروعية حيازتنا لكثير من أوجه التفضيل، على نحو ينال قناعات حقيقية لدى الغير.
وفى إطار مراجعات مأمولة ينبغى أن تحتل أولوية قصوى داخل كل حوار مجتمعى مهموم بالقضايا الأساسية للوطن، نؤكد أن ندرة الخيارات داخل أروقة العمل الوطنى العام، ما هى إلا أحد المُخرجات المنطقية شديدة الواقعية جراء النظر طويلاً إلى منجزات بعيدة لم نشارك فى صناعتها، مثلما هى نتاج طبيعى لغياب الديمقراطية كثقافة مجتمعية على مدى عقود عدة؛ إذ تنتج الديمقراطية تفاعلات مجتمعية تستنهض وتوفر بدائل شتى، ليس فى غيابها يمكن أن تتحقق التنمية الشاملة المنشودة.
وعليه، ينبغى أن تنضبط جملة من المعايير التى بموجبها نحتجز جهود البعض بعيدا عن فرصة المشاركة بجدية فى العمل الوطنى العام، سحبا من الرصيد المتزايد لخطابات الاحتكار والتخوين وقد بات لها مجال واسع داخل حياتنا السياسية، أدى إلى ما نعانيه من فراغات معيبة فى العمل الوطنى العام.
وبالحياة الحزبية، ترتبط مراجعات بعينها، ربما يعلوها ما تثيره تراكمات متعاقبة من ممارسات رديئة لم تنجز ثورتنا بعد مهمة إزاحتها من طريق مسيرتنا الوطنية؛ إذ لم ننجح فى صياغة علاقة مشروعة ومقبولة بين المال والعمل الحزبى.. بل أصبحت الحياة الحزبية الباب الأوسع لهيمنة المال على مناطق ممتدة من الحياة السياسية.. فيما يشير الحال إلى أن الأندية الرياضية تخلت عن أحد مفاهيمها المغلوطة؛ إذ استيقظت من وهم تفضيل وجود رجل أعمال رئيساً للنادى، عساه يتكفل بالأعباء المالية! فى حين ما زالت الأحزاب السياسية!
ولنا كذلك فى السياسات العامة، المنوط بها إدارة شئون الدولة، مراجعات شتى، ربما لا يتسع المجال حتى لاختزالها، غير أن أملاً مازال يحدونا بموجبه ندرك كم بات الأمر أكبر من مجرد إقرار بالحق المسلوب عقودا فى أن يدرك الشعب أسباب ظهور أو اختفاء مسئول من فوق مقعده.. كذلك فإن تطوراً ينبغى أن ينال من فكر القائمين على وضع السياسات العامة، عليه يدركون فروقا اتضحت عن يقين أمام كل المجتمعات المتقدمة، حين رأت أن السياسات العامة فى العالم المعاصر، تتأسس وفق مرتكزات فكرية حاكمة لا يمكن تجاوزها.. ذلك أن الإطلالات الاقتصادية لظاهرة العولمة، وقد تجلت منذ دخولنا عصر القطب الأوحد مطلع التسعينيات من القرن العشرين، لا يمكن أن يغيب صداها داخل السياسات العامة.
وغير ذلك، نهزل إذ يجتهد غيرنا، ونتراخى بينما الآخر يعمل؛ ومن ثم ينجح، ونجاحه بالقطع يسحب من فرصنا إزاء عالم متنافس بشكل كثيف، ثم لا نجد فى ذلك إلا أنه علينا يتآمر، ومصائرنا منه مستهدفة، ثم إننا «جلوساً»، عليه «أقدر»!! وعلى هذا النحو المدهش نراوح موقعنا بين ندرة الخيارات ووفرة الفراغات.