رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الدنيا التي وراء السد

في ضيافة ثلاثة ربان ومتر دو تيل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أتاح لى القدر أن أتابع حركة السفينة، كنا قد رسونا فى أبوسمبل، كانت كابينتى مواجهة لرصيف ميناء أبوسمبل، وفى الثانية والنصف بعد منتصف الليل، رأت عيناى ولم يستشعر جسدى حركة السفينة، رويدًا رويدًا أخذ الرصيف يبتعد ويبتعد، وعرفت للمرة الأولى فى حياتى أن السفن تسير للخلف، كنت أظن أنها ميزة أو خاصية للسيارات فقط.. ظلت السفينة فى حركتها الخلفية حتى أصبحت بعيدة تماما عن المنحنى الذى رست فيه، فأخذت طريقها للأمام متجهة إلى أسوان، ظللت أتابع ضربات السفينة للموج الساكن، فتشق عبابه وهو يهدر حولها، كانت أضواء الكهرباء على الناحية الغربية قوية وكان معبدا أبوسمبل فى بهائهما الملكى وخلودهما الأبدى، رنوت إلى المعبدين اللذين سبق أن انبهرت بتفاصيلهما نهارًا، وفتنت بعرض الصوت والضوء مساء.
ظللت أرنو للمعبدين حتى تجاوزتهما السفينة بكثير وأصبحا نقطتي ضوء فى بهيم الليل أو نجمة أرضية هبطت من عالم الخلود إلى الأرض.. مضى على وقفتى أكثر من ساعة استجابة لرغبة كامنة فى داخلى، تحاول دائمًا تتبع ما يحدث خارج شرفتى، أثناء إبحار الباخرة ليلًا، فى ليلتى الأولى كنت أستيقظ كل ساعة، حركة الباخرة ناعمة لا يدل على تحركها سوى تغير سطح البحيرة وتصاعد الأمواج التى تشقها، رأيت النجوم، كنا فى قلب البحيرة فى نقطة ما من عرضها الذى يبلغ أقصاها ١٨ كيلو مترًا وكانت النجوم كما خلقها الرب بعد ساعة، وفى صحوى الثانى كان القمر قد ملأ السماء وغامت النجوم تحت ضيائه، فى اليقظة الثالثة تبدت الظلمة وبدا أن الشمس فى طريقها لعرش الدنيا، كانت كابينتى تطل على جهة الغرب، فى البين بين ما بين الانتقالات بين عالمين علقت لبرهة.. أين أنا؟ كانت مريم بجوارى، لكن الغرفة لم تكن غرفتى أو غرفتها، كنت فى كابينة على متن باخرة تقوم برحلة إلى ما وراء السد، يبدو تعبير «ما وراء» تعبيرًا غامضًا مخيفًا، مثيرًا، يذكرنى بعبارات «ما وراء الطبيعة»، تعبير أقرب للفانتازيا منه للواقع.. لكني الآن وأنا أتربع على سرير لم يصبح بعد سريرى، وأنظر من الشرفة للماء الممتد وللشاطئ اللامتناهى كنت فى قلب «الما وراء»، وقد انتقلت إليه مع رفاق الرحلة مباشرة من مطار أسوان إلى السد العالى، وبالتحديد ميناء السد. فى طريقنا للمجهول حيث لا نعرف الخطوة التالية، كان الإحساس بالمغامرة هو المسيطر على كلماتنا المتناثرة وابتسامتنا المعلقة.. ماذا خلف هذا الصرح العظيم، الترقب، التوقع، الانتظار؟ كانت أجنحة حورس التى ترفرف علينا.. ومع توجيهات المرحبين بنا، قادتنا أقدامنا للباخرة «بحر النوبة» كانت الباخرة بانتظارنا، نزلنا لها بسلالم لم تسعفنى البديهة أن أعدها، السفينة بيضاء اللون وأطر شبابيكها زرقاء، شكلها الخارجى بسيط، لا يحمل بهرجة أو وعودًا زائفة، انطلقت الباخرة فى عام ١٩٩٥، وهى آخر سفينة بالبحيرة يتم بناؤها فى الإسكندرية وتنقل على أجزاء عبر سد أسوان ثم تقطر على البر إلى ميناء السد، تحتوى الباخرة على ٦٦ كابينة وأربعة أجنحة أقمت أنا ومريم فى الكابينة رقم ٢١٠ فى الدور الأول، ديكور الباخرة دافئ تغلب عليه تدرجات النبيذى والبنى والبرتقالى، هذا الدفء يقاوم برودة تيارات الهواء الشديدة التى تحيط بالسفينة، العاملون على السفينة ودودون بالفطرة دون سماجة أو إلحاح، عاملو النظافة لا تكاد تراهم، لكن تشعر وتحس بأثرهم من ترتيب ونظافة الكابينة، ومن الأشكال التى يصنعونها من شراشف السرير، سلحفاة، بجعة، تمساح، وذات مرة عندما دخلت الغرفة وجدت فى انتظارى فتى نوبيًا كونوا جسده من المخدات البيضاء وشكلوا رأسه من شالى البنفسجى بينما تجسد قدمه فى طرف المفرش ووضعوه فى الفردة اليمنى من كوتشى «مريم»... أى بال رائق غمرنى وأى إتقان أبهجنى. 
هذا الإتقان والتفانى جعلانى أرغب فى التعرف على العاملين بالسفينة، وبدأت بالدردشة مع المتر «صبحى» الذى يحمل وجهًا بشوشًا وابتسامة دائمة، والذى لم ينتظر منى سؤالًا، فمجرد أن عرف أنى كاتبة حتى فرد قلاع تباهيه وفتح خزينة ذكرياته عن المشاهير الذى سافروا فى رحلات على الباخرة.. عدد من المشاهير والشخصيات السياسية منهم الفنان الراحل نور الشريف وأسرته، والرئيس معمر القذافى الذى حضر بصحبة ابن عمه قذاف الدم ومعه حارساته، وكلهن كما يتذكر سمراوات إفريقيات.. وقد حضر الرئيس الليبى إلى الباخرة أثناء انعقاد القمة العربية إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ويبدو أنه أراد أن يكون هناك رد عربى حاسم لمواجهة إسرائيل، لكن القيادات العربية كانت توازن الأمور، فترك القمة أو قام بهذه الرحلة إلى أبوسمبل، وقد دفع تكاليف إقامته كاملة، بالإضافة مبلغ محترم تركه إكرامية للعاملين بالسفينة. استرسل المتر صبحى «عندما سألت الرئيس معمر القذافى عما يريد من طعام، قال أى شيء ماعدا السمك، فأقمنا أوبن بوفيه فوق الصن ديك، وقد قدمت الطعام للرئيس معمر بنفسى وعندما اقتربت منه شعر بمهابتى له وسألنى لماذا أنت خائف؟ فأجبت: «أنا لا يمكن أن أخاف من الزعيم العربى الذى قال لا لأمريكا».
ومن المطعم توجهت لمقدمة الباخرة حيث قمرة القيادة، التقيت بثلاثة ربان الريس عبد النبى والريس أبوالسعود والريس ريان.
أعطانى الريس عبد النبى معلومات وافرة عن الباخرة وما يميزها عن البواخر التى تبحر فى النيل. 
قال: البواخر التى تبحر فى بحيرة ناصر لها مواصفات خاصة، فهى تتميز كما قال الريس عبد النبى بوجود هوايات فى الجانبين تسمح بمرور الهواء من جانب إلى الآخر، كما أن موتورها أقوى، لأن مياه البحيرة هادئة لا تساهم فى دفع الباخرة، كما هو الحال فى مجرى النيل. تقوم الباخرة برحلتين الأولى المنجر أو المقبل وهى الرحلة من أسوان إلى أبو سمبل والثانية كاسا من أبوسمبل إلى أسوان، وتستغرق كل رحلة ٢٠ ساعة.والمراكبية يعملون ٣٥ يومًا أى ٥ أسابيع ويأخذون إجازة ٢٠ يومًا يقضونها فى بلادهم، وهم يتناوبون الإجازة بحيث يبقى فى الخدمة أربعة مراكبية.
تشعب الحديث حتى وصل لسد النهضة وأثره على بحيرة ناصر فوجدت رأيين، رأيًا واقعيًا يخشى من السنوات التى سيملأ فيها خزان السد، صحيح أن التأثير على البحيرة لن يكون كبيرًا، لكنه سيجعلهم كمراكبية يلتزمون بالخط الملاحى بدقة متناهية ويسيرون على المسطرة، لأن الوضع الحالى وارتفاع منسوب المياه فى البحيرة يجعل المجرى الملاحى أوسع فيعطيهم براحًا فى الحركة، ولكن انخفاض المنسوب الذى يقدر بعشرة أمتار سيكشف عن الكثير من الصخور والتلال الغارقة وسيصبح عليهم تفاديها، وكان هناك رأى آخر يرى أن هذا البلد محفوظ بأمر الله، ومحاط بالعناية الربانية وأن الماء رزق من الله. ولن يستطيع كائن من كان أن يقطع ما وصله الله.
وعندما سألت «الريس أبوالسعود» عما أخذته منه وما أعطته مهنة المراكبية.. ضحك وقال : أخذت عمرى. ولما رأى على وجهى تعبير «عادى، كل المهن تأكل أصحابها» أكمل: لكنها أعطتنى قوة الملاحظة والحفظ، فأنا أحفظ كل جبل وكل كثبان تقابلنا على الشاطئين. اندهشت.. كيف تميز طول البحيرة الذى يبلغ ٣٥٠ كيلو مترًا وكلها بالنسبة لى متشابهة؟ قال: «أنا أذاكرها وأحفظها كما يذاكر الطالب دروسه.. نحن نقترب الآن من «خور جلال»، ويبدو لك أن البحيرة ستنغلق لكن عما قليل سيظهر منفذ منحنى على اليسار». أخذت أحملق للرادار وللبحيرة التى يقترب شاطئها من السفينة، وسرح بصر الرجل الذى جذبتنى ملامحه وتشابهها الشديد مع ملامح حماى الحاج «نجاح الباز» وقال: «عندما كنت صغيرًا كنت أقف خارج قمرة القيادة، وكنت أراقب وأتعلم. أنا الآن أجلس هنا، هذه مهنة تحتاج إلى صبر وتأنٍ، وقد تمنيت أن يمتهنها أولادى لكنهم لم يحبوا المياه وهذ مهنة تبدأ بالماء وتنتهى به». 
ويبدو أن فضولى وشغفى بمراقبة شاشة الرادار وحركة الدفة التى كان يمسك بها «الريس ريان» قد دفعاه ليرمى لى طعمًا آخر، فقال لى: بعد ساعة سنمر بمدار السرطان.
للوهلة الأولى لم أستوعب.. هنمر بإيه؟ مدار السرطان.. وكأنى لم أدرس جغرافيا أو كأن ما درسناه فى كتب الجغرافيا أساطير لا وجود لها، ابتهجت كطفلة صغيرة خرجت جنية من حكايتها وتجسدت فى الواقع وانتظرت وانتظرت وبعد الساعة السادسة إلا الربع مساء وبينما مازالت آثار الشمس باقية عالقة تلملم ما تبقى من ضوء النهار، أخبرنى «الريس ريان» أننا نعبر مدار السرطان.. هل كان هناك فرق بين ما قبل المدار وما بعده.. فى الحقيقة لم أشعر بشيء، فالصورة الكبيرة تصنعها التفاصيل الصغيرة والانتقال بين الأبيض والأسود، والحار والمعتدل، ليس حادًا أو قاطعًا، فالرمادى كما يقول حبيبى هو سيد الأحوال. وأحمد الله أن الربابين الثلاثة لم يلاحظوا انسحاب حماستى فى ظلمة الليل الذى أعلن تسيده.