الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عبدالفتاح مصطفى!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بالصدفة البحتة سمعت موسيقى عابرة، لكنها فتحت فى قلبى ورود التذكر، وأعادتنى إلى زمن الكبرياء وتحدى المستحيل فى زمن دولة عبدالناصر العظيم، الدولة التى كانت تزرع للكل وتصنع للكل حين كان ذلك الكل واحدا، وعفيا ومواجها عنيدا لتحديات المراحل، وأخذت الموسيقى العبقرية التى وضعها الموسيقار الفلتة رياض السنباطى تتسلل إلى روحى وتهيمن على مشاعرها التى بدأت تفيض شفافة منسابة كماء جدول رقراق، ثم تصعد بى لملتقى الدمع الذى كاد يفعلها فينهمر مدرارا وأنا أسمع صوت أم كلثوم الشجى الرائع وهى تتغنى بكلمات شاعر غير مسبوق أو ملحوق هو عبدالفتاح مصطفى: «يا حبنا الكبير الاول والأخير، يا ضاممنا تحت ظلك وفى خيرك الكتير، يا حبيب كل الحبايب اللى حاضر واللى غايب، ملايين لكن فى حبك كلنا أهل وقرايب». 
ومضى اللحن منسابا عذبا وهى تغنى باستمتاع ملحوظ: «تجمعنا كلمتك تدفعنا ثورتك والفرحة فرحتك والنصرة نصرتك، وفى أعيادك نهنى ونغنى غنوتك، تعيش وتسلم يا وطنى، يا حب فاق كل الحدود، يا أغلى عندى م الوجود، انت نشيدى للفدا وللبطولة والخلود، افديك بروحى وبكل غالى ويعلا اسمك مدى الليالى، وأصافى اللى يصافيك وأجافى اللى يجافيك، وكل يوم من عمرى بيزيدنى حب فيك، تعيش وتسلم يا وطنى».
وسط هذه البهجة الملونة فكرت كثيرا فى دور الأغنية الوطنية وروعتها التى زرعت فى المصريين حب الوطن الذى وصفته أغنية لعبدالوهاب بأنه «فرض عليا، أفديه بروحى وعينيا»، وهى إحدى الأغنيات التى سجلت حضورها القوى فى وجدان المصريين وبقيت أسيرة هواهم للوطن الذى لم يعد معنى مجردا، بل إن الشعراء الكبار «أنسنوه» وحولوه إلى حالة عشق ضافية لا تنتهى، بل إن معانى جديدة وجدت لنفسها مكانا فى القلوب فى مثل الصورة العبقرية التى كتبها أيضا عبدالفتاح مصطفى لأم كلثوم وكانت ضمن أغنية «طوف وشوف» حين قال: «كان نهار الدنيا ماطلعش وهنا.. عز النهار» فى دلالة واضحة على التحضر والرقى وعشرات الإضافات الحضارية التى قدمتها مصر الفرعونية للبشرية ومنها استغلال المحاجر، المسح وتقنيات البناء التى سهلت بناء الأهرامات الضخمة والمعابد والمسلات، بالإضافة إلى نظام رياضيات عملى وفعال فى الطب وأنظمة للرى وتقنيات الإنتاج الزراعى، وأول ما عرف من السفن والقيشانى المصرى وتكنولوجيا الرسم على الزجاج، وأشكال جديدة من الأدب، وأول معاهدة سلام معروفة، وتركت مصر القديمة إرثا دائما ونُسخت وقُلدت الحضارة والفن والعمارة المصرية على نطاق واسع فى العالم، ونقلت آثارها إلى بقاع بعيدة من العالم. وألهمت الأطلال والبقايا خيال المسافرين والكتاب لعدة قرون، وأدت اكتشافات فى مطلع العصر الحديث عن آثار وحفريات مصرية إلى أبحاث علمية للحضارة المصرية تجلت فى علم أطلق عليه «علم المصريات»، مزيدا من التقدير لتراثها الثقافى فى مصر والعالم، وهذا كله اختزله الشاعر الكبير فى جملته الشعرية العبقرية.
ورغم هذا لم ينل الرجل حظه من الشهرة والذيوع على مستوى الأجيال الجديدة، وإن كانت أغانيه تتمتع بشهرة واسعة، خصوصا تلك التى كتبها لسيدة الغناء العربى أم كلثوم، ومنها على سبيل المثال والحصر أغانى: «لسه فاكر، ليلى ونهارى، أقولك إيه عن الشوق، طوف وشوف، إنا فدائيون»، وتقاسم رياض السنباطى وبليغ حمدى ومحمد الموجى تلحين هذه الروائع، ولم يقف إبداعه عند هذا الحد من الأغانى الخالدة، بل تعداه إلى تقديم العديد من الأعمال الإذاعية، ومنها الذى ما زال يذاع بنجاح مثل «عوف الأصيل، ومرزوق، والشاطر حسن، وشمس الأصيل، وعذراء الربيع، والبيرق النبوى»، كما كتب سيناريو وحوار وأغانى «مسلسل محمد رسول الله» الشهير، وقدم سيناريو وحوار وأغانى فيلم «الشيماء» التى غنتها سعاد محمد، وفى السبعينيات اتجه الشاعر اتجاها صوفيا فى قصائده، فنظم الأغانى الدينية لعبدالحليم حافظ، كما كتب العديد من الأناشيد لكبار المنشدين أمثال الشيخ سيد النقشبندى.
هذا هو الشاعر الكبير عبدالفتاح مصطفى الذى تمر على رحيله عن دنيانا قريبا ٣٢ عاما، حيث توفاه الله عن ٦٠ عاما فى يوليو ١٩٨٤ الذى يمثل نسيجا وحده من مبدعين ذابوا عشقا فى هذا الوطن الغالى مصر الذى يستحق أن يحيا بشكل أفضل مما يعيش، وأن يستحق أبناؤه أن يكونوا تحت الشمس دائما وأبدا.