الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نهاية كل سقراط

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى القرن الرابع قبل الميلاد، وفى أثينا كان سقراط فيلسوفًا يجتمع حوله التلاميذ الذين سيكون منهم فلاسفة فيما بعد، وعلى رأسهم أفلاطون الذى ترك لنا أكثر من كتاب هى محاورات مع سقراط وتلاميذه حول أفكار كبرى مثل الجمال والحق والخير وخلود النفس وغيرها من القضايا الفلسفية. فى ذلك الوقت امتلأت اليونان بالفلاسفة السوفسطائيين الذين ملأوا البلاد بالشك، فلا حقيقة مطلقة وكل شيء نسبى، فالحق ليس موجودًا بذاته لكنه يخضع لوضع طالبه، فالغنى ينتزع الحق الذى يكون بالنسبة للفقير هو الظلم وحرية الحاكم هى عبودية الرعية وهكذا.
كانت هذه الأفكار قد بدأت فى زعزعة نفوذ حكام اليونان ولم يكن أحد بقادر على مواجهتها مثل سقراط الذى جعل العقل لواءه فى التفكير ومن العقل تتوالد المعانى مترابطة لا يمكن زعزعتها لأنها فى النهاية مقنعة لكل من يفكر، ومتراتبة فى نسق عقلى قوى، ومن ثم يمكن تعريف الحقائق الكبرى مثل الخير والحق والجمال والخلود وغيرها بأفكار لا تقبل النقاش لأنها تعتمد على العقل الذى من الصعب زعزعته باعتبار قوة المنطق واتساقه وعليه فالأمور فى الحياة ليست نسبية إلا فى الحاجات الصغرى لكن القيم الكبرى ليست نسبية بل صالحة لكل مكان وزمان.
كانت أفكار السوفسطائيين كفيلة بإحداث الثورات فى البلاد فما دامت النسبية هى الحقيقة المطلقة فكل ما يفعله الحكام والأقوياء لا يروق لى ومن ثم يمكن مقاومته، وكانت بابا للفوضى العارمة لأنه أمامها ستقف القوانين عاجزة عن الثواب والعقاب. صار سقراط بما له من قدرة عقلية جبارة هو المفكر الذى يستطيع دحض دعاوى السوفسطائيين وإعادة البلاد إلى الطريق الصحيح، وأتيح له المكان والتلاميذ وانتشرت أفكاره ووجدت صدى كبيرًا فى بلاد اليونان وأصبحت مدرسة سقراط هى المركز المشع بالعقل فى كل الأرجاء. شيئا فشيئا ضعفت أفكار السوفسطائيين وبهتت وكادت تنتهى من البلاد وهنا ظهرت زوجته التى اتهمته بالفحش والفجور والشذوذ الجنسى مع شباب المدرسة، وهو اتهام لا يرتب عقابا كبيرا اللهم إلا الفضيحة لكن الدولة الأثينية التى لم تعد فى حاجة إلى سقراط بعد أن استقرت أحوال البلاد وجدت الوقت مناسبًا للتخلص منه بعد أن صار مرجعًا أكبر فى الفكر فاتهمته بالسفسطة. أجل السفسطة ولا شىء آخر لأنه ببساطة كل الأفكار التى يقرها العقل يمكن أن يقر عكسها أيضًا بأدلة وبراهين أخرى، وحكم على سقراط بالموت بالسم وانتهى الأمر وتخلصت أثينا من الأفكار الواقعية للسوفسطائيين والأفكار العقلية لسقراط.
هذا درس قديم جدًا من دولة رفعت شعار الديمقراطية لكنها كانت دولة تقوم اقتصاديا على نظام عبودى ومن ثم لن تسمح بعدم الاستقرار وهو درس يعكس العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة، وهو درس يقول بوضوح إنه لا أمان للسلطة فى أى زمان ومكان ورغم ذلك لم يتعظ به أحد لعدة أسباب أهمها أن جاه السلطة شديد الإغراء وأهمها ولعله الأهم فعلًا أن المثقف قد لا يجد طريقًا آخر أسهل وأوسع من طريق السلطة لنشر أفكاره. وفى حالة سقراط لم يكن الرجل عميلًا للسلطة لكنه كان بالفعل مؤمنًا بما يقول. هذا الإلحاح الروحى على المثقف لنشر أفكاره بطريقة أسهل وأسرع هو حق للمثقف لكنه حق يضل طريقه فى المجتمعات والنظم الديكتاتورية ويدفع المثقف ثمنه فى النهاية، بينما هو فى النظم الديمقراطية فى الغالب لا يرتب أى أعباء على المثقف لأنه يستطيع نشر أفكاره فى قنوات أخرى كثيرة غير حكومية وفى النظم الديمقراطية عموما ما أقل القنوات والطرق الحكومية وربما لا توجد بالمرة. هذا الدرس يرتب على المثقفين فى النظم الشمولية الانتباه لكنهم على الأغلب لا ينتبهون بسبب ما قلته من رغبة المثقف فى نشر أفكاره وفى هذه الحالة يكون المثقف صاحب أفكار حقًا ولا يدخل فى هذا الحديث الأقل أفكارا أو الذين يتصورون أن الثقافة هى فى الدفاع عمال على بطال عن النظم. وأصحاب الموقف الأول هم الذين يكون الثمن الذى يدفعونه فادحًا لأنهم فى لحظة دفع الثمن سيشعرون بالغبن من النظم التى تخلت عنهم فيصرخون بالاحتجاج على هذه النظم، فيؤكدون بصراخهم أنهم كانوا يفعلون ما يفعلون ليس لرغبتهم الملحة روحيا لنشر أفكارهم ولكن لارتباطهم الوثيق بالنظم، وهنا سيقول أعداؤهم انظروا لم يكونوا مفكرين أحرارا بل كانوا من رجال السلطة، وسيبتعد الناس عنهم وعن أفكارهم رغم أنها لم تكن كذلك. ينتهى المثقف وتهمل كتبه ولا يصدقها أحد، وهكذا يكون الغبن مرتين. ولكن هل يمكن للمثقف أن يجد لنفسه طريقًا آخر؟ يمكن إذا أراد وفى عصرنا يمكن له أن يجد عشرات الطرق لنشر أفكاره بعيدًا عن مظلة أى دولة، لكن أهم ما يفعله أن يتخلى عن أى منصب حكومى مؤثر فى دنيا الثقافة. ساعتها فقط لن يجد الشك طريقًا عند أحد فيما يكتبه ولن تعجز الدولة عن البحث عن مثقفين آخرين لاحتلال منصبه.
أجل الجمع بين الثقافة والمنصب هو المدخل الأكبر للهجوم على أى مثقف ويزداد هذا الأمر حين يكون للمنصب مكاسبه الشخصية الكبرى من جهة المال والنفوذ. هذا يدفع المثقف أكثر إلى الثقة فيما يكتبه خالطا بين وضعه الوظيفى المرموق وبين كتاباته فكتاباته أمام نفسه لا تقل عن وضعه المرموق وحبذا لو تدر عليه أموالًا كبيرة وتجعله موجودا فى كل المؤتمرات والمجلات واللجان والمجالس الفكرية ولا ينتبه أبدًا إلى أن هذا الوضع الثقافى المرموق هو ابن للوضع الوظيفى المرموق، وأنه هو المدخل للابتعاد عما يكتب وأن هذا الوضع المرموق هو كعب أخيل ففى لحظة تتركه السلطة إلى الأعداء فيضيع المنصب والكتابة معا.