الخميس 23 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

هاني درويش

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كلما جاءت سيرة موقعة الجمل تذكرت هانى درويش، صديقى الصحفى والناقد اللامع الذى رحل ذات ليلة حارة من صيف 2013، نتيجة أزمة قلبية مفاجئة.
تعرفت على هانى درويش، خلال عملى فى جريدة «روزاليوسف» المولودة حديثًا عام ٢٠٠٥ عندما انضم إلى صفحة الثقافة التى كان يشرف عليها الصديق ياسر عبدالحافظ.
كان لهانى درويش حضور ملفت، مصحوب بالصخب والحركة والسخرية، وعندما تتخذ المناقشات طابع الجدية يصبح لذلك الحضور عقل محمل بثقافة شاملة وعميقة.
عندما علم هانى درويش بهوسى بلعبة الشطرنج جاءنى ذات يوم بديوان مختارات للشاعر البرتغالى، فيرناندو بيسوا، يحمل قصيدة بعنوان «لاعبا الشطرنج» تدور فى زمن بعيد جدًا عن اثنين من لاعبى الشطرنج يجلسان تحت شجرة منهمكان تمامًا فى اللعب، فى الوقت الذى تدور فيه حرب دموية يقتل فيها الأطفال وتغتصب النساء وتحرق البيوت، دون أن يخطر ببالهما ترك اللعب، أو يهتز لهما جفن.
يقول «بيسوا» فى قصيدته:
«إخوتى فى حب أبيقور
لنتعلم بتوافق مع ذواتنا
من لاعبى الشطرنج
كيف نمضى الحياة
لا يهمنا إلا قليل كل ما هو جدى.. كل ما هو خطير
ليترك الدافع الطبيعى للغريزة
مكانه للمتعة اللا مجدية
لأداء مباراة شطرنج جيدة
تحت الظل الساكن للأشجار 
ما نأخذه من هذه الحياة
الباطلة. مجدا أم شهرة، حبا أم علما
ليس بأفضل من ذكرى
مباراة كسبناها
أمام لاعب جيد».
حكيت لهانى ما رواه لى الأديب فتحى غانم، من أنه صباح السادس من أكتوبر ١٩٧٣، كان يجلس فى مقهى نادى الشطرنج فى حى السيدة زينب، يلاعب بطل مصر فى الشطرنج وقتها، والذى كان طبيبًا وضابطًا بالجيش، وسمع الاثنان البيان الأول للحرب فى الراديو، ولكنهما لم يتركا اللعب أو يفكران فى الذهاب، الأول إلى صحيفته، والثانى إلى وحدته العسكرية...قبل أن ينتبها إلى ما يحدث بعد إذاعة البيانين الثانى أو الثالث.
كنا نضحك أنا وهانى على قصيدة بيسوا وحكاية فتحى غانم، فقد كان مهووسا بكرة القدم، ربما أكثر من هوسى بالشطرنج، وكنت أقول له لو قام زلزال أثناء مباراة بين لشبونة وريال مدريد، فلن تقوم من مكانك أو تتوقف عن متابعة المباراة.
لكن هانى وأنا تخلينا عن لا مبالاتنا، وألعابنا المفضلة، وكل شيء مهم فى حياتنا، يوم موقعة الجمل، الذى قضيناه سويا فى ميدان التحرير، نشارك المتظاهرين، ولو بالتواجد فقط، فى صد هجمات بلطجية مبارك على الميدان.
فى ذلك اليوم دخلت الميدان بعد الظهر عندما لفت انتباهى وجود حصان يسحبه بعض المتظاهرين، وحالة هرج ومرج شديدة، تقدمت نحو مدخل طلعت حرب، وشهدت بعينى وقائع تصدى النقيب ماجد بولس للبلطجية، وهى الواقعة التى حسمت إلى حد كبير نتيجة هذا اليوم، وكانت بمثابة رمز لما فعله الجيش المصرى بعدها، عندما قرر أن يحمى هذه الثورة ويعترف بها.
التقيت هانى درويش عند المساء، استطاع أن يأتى من مدينة أكتوبر بعد رحلة صعبة حكى لنا عنها، ولم نفترق حتى اليوم التالى.
فى الليل كانت زوجتى تواصل الاتصال بى منزعجة ومفزوعة مما تذيعه القنوات من وجود هجمات مسلحة تتقدم نحو الميدان، وسقوط عشرات القتلى، ولما يئست من محاولة إقناعها بأننى لن أغادر المكان مهما حدث، التقط هانى التليفون منى وحاول إقناعها بدوره أن «ترك الميدان الآن خيانة».
بقينا، هانى وأنا، معًا حتى صباح اليوم التالى، الثالث من فبراير، نحتفل ببزوغ الشمس، وانسحاب المعتدين، وعيد ميلادى الذى يحل فى هذا اليوم.
الصديق باسل رمسيس التقط بعض الصور لنا فى شارع قصر النيل، وكتب بعد ذلك عن ذكرياته فى هذا اليوم. نفس ما فعله هانى درويش الذى كتب مقالا بديعا عن أحداث اليوم، مزج فيه بين العام والخاص، نشره فى أكثر من مطبوعة.
مات هانى درويش فجأة، بعد أيام قليلة من آخر لقاء جمعنا على مقهى «التكعيبة» فى وسط البلد. أتذكر هذا اللقاء جيدا لأن هانى، العائد حديثا من ألمانيا، استأثر بالحديث لساعات روى فيها عما يفعله الإخوان ضد مصر فى ألمانيا، وعن الرياضة التى كان يعشقها، وبشكل خاص عن الأدب، عن الأديب اللبنانى ربيع جابر، وعن رواية «شريد المنازل» للروائى اللبنانى جبور الدويهى.
استغرق هانى فى حكى الرواية التى تدور فى بيروت زمن الحرب الأهلية، عن طفل جنوبى مسلم تربى فى بيت أسرة مسيحية شمالية، وفى لحظات بعينها، أثناء حكيه، كانت الدموع تتساقط من عينيه وهو يستدعى مشاعره أثناء قراءة الرواية.
بعد وفاته بحثت عن الرواية وقرأتها، محييا ذكراه على طريقتى، وصوته وصورته، خلال آخر لقاء على «التكعيبة»، يتقافزان فى كل صفحة.
كلما سمعت اسم الرواية، وكلما سمعت اسم بيسوا، وكلما جاءت سيرة موقعة الجمل، أتذكر صديقى الجميل، الذى رحل قبل الأوان، مساء يوم حار من الصيف قبل الماضى، بعد أن فشل قلبه فى احتمال كل هذا الانفعال والصخب والمبالاة.