رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التاريخ عصّي على المحو

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عيد الشرطة احتفال بمناسبة تاريخية جليلة، تشير إلى موقف وطنى اتخذه رجال الشرطة حيال جنود الاحتلال البريطاني، كما أن ٢٥ يناير يذكرنا بقدرة الشعب على تحقيق انتصار فى مواجهة حكم رآه فاسدًا، و٣٠ يونيو يذكرنا بقدرتنا على تصحيح المسار إذا ما بدا لنا منحرفًا. ولا يعنى ذلك بحال تبرئة مطلقة لجهاز الشرطة عبر تاريخه الطويل، ولا تغافلًا عن سلبيات شابت أداءنا سواء فى ٢٥ يناير أو ٣٠ يونيو.
ورغم ذلك الإقرار البسيط؛ فإننا نواجه اليوم بعدد من الأسئلة وتجد نفسك مطالبا بالاختيار الصارم القاطع بين إجابتين: هل أنت من أنصار ثورة ٢٥ يناير؟ أم ٣٠ يونيو؟ هل ٢٥ يناير عيد الشرطة أم أنه عيد لثورة يناير؟ وليس لك خيار فى التأمل أو التفكير.
مثل تلك التساؤلات ليست بالمستجدة على نسيجنا الثقافى بل هى ضاربة الجذور فى أعماق ذلك التاريخ: هل محمد على هو بانى مصر الحديثة؟ أم أنه الخديو إسماعيل؟ أم أنه عبد الناصر؟ هل عمرو بن العاص فتح مصر هاديًا أم غازيًا؟
لقد مارس العديد من حكامنا منذ فجر التاريخ لعبة العبث بالتاريخ، محوًا أو إضافة أو حتى اختلاقًا. لقد صارع تحتمس الثالث الملكة حتشبسوت ونجح فى إزاحتها من على العرش ومن الحياة، ثم لم يلبث أن حاول محو وجودها من التاريخ؛ فأقدم على محو اسمها من حوائط المعابد، وتهشيم صورة وجهها من على التماثيل، وتحطيم مسلاتها، وحين استعصت عليه واحدة من تلك المسلات، أحاطها بجدار عالٍ يحجبها عن الرؤية، وظن أنه بذلك قد محى ذكر حتشبسوت من التاريخ؛ ومضت السنوات وأزال مكتشفو الآثار تلك الجدران، لتظهر مسلة حتشبسوت شامخة، وتبقى إلى يومنا هذا مقصدًا للزوار من جميع أنحاء الأرض يسمعون حكايتها وحكاية محاولة محوها بجميع اللغات. 
ورغم كل ذلك فإن أحدًا لم يستوعب الدرس، فقد شهدنا محو صورة الملك فاروق من أفلامنا القديمة، ومحو اسم الممثل السينمائى عبدالغنى قمر من مقدمات الأفلام التى شارك فيها لانحيازه السياسى ضد السادات، وشهدنا قبلها محاولة محو اسم محمد نجيب أول رئيس لأول جمهورية فى بلادنا، كما شهدنا لفترة طويلة عقب هزيمتنا عام ١٩٤٨ محاولة محو اسم إسرائيل من خرائطنا وأحاديثنا باعتبارها «دولة مزعومة»، ثم شهدنا محاولة إخفاء صورة الفريق الشاذلى من الصور التاريخية لأبطال حرب أكتوبر، وما زلنا نرى شوارع عاصمتنا تحمل لافتات مستجدة، تحاول أن تخفى أسماء فاروق وفؤاد وسليمان باشا والملكة نازلى والملكة فريدة إلى آخره فضلًا عن لافتة بحيرة السد التى تخفى لافتة بحيرة ناصر.
ونشهد هذه الأيام نزاعًا فريدًا حول ملكية ٢٥ يناير، هل هو عيد للشرطة؟ أم عيد للثورة؟ البعض يعلن صراحة «إننى لا أعترف أصلا بأن ما حدث فى ٢٥ يناير ثورة بل حدث إجرامى مخطط للإطاحة بالحاكم الشرعى ونشر الفوضى، وأن الجيش قد أحبط تلك المؤامرة الشريرة»، ويتجاهل صاحبنا أنه لو كان ذلك صحيحًا لثبت الجيش حكم مبارك ولم يكن آنذاك بعد أن فشلت المؤامرة فى حاجة لإجراء انتخابات تأتى فى النهاية بالإخوان المسلمين لتولى السلطة، ليقوم بعد ذلك بإزاحتها تحت ضغط شعبى، دون أن يفكر للمرة الثانية فى إعادة مبارك، إن إلغاء ثورة يناير رغم استحالته تاريخيًا، إنما ينزع المبرر الشرعى ليس عن حكم الإخوان المسلمين فحسب، بل عن ثورة يونيو التصحيحية وما تلاها أيضًا.
ولكن يبقى السؤال: ترى ما تفسير ذلك الإصرار على تكرار ممارسة نفس السلوك الذى ثبت فشله عبر التاريخ؟ إن الأمر أشبه بسلوك الطفل الذى يغمض عينيه أو يضع يديه عليها، حين يواجه موقفًا يحس فيه تهديدًا، متصورًا أن اختفاء المشهد من مجال رؤيته يعنى اختفاءه من العالم الواقعى.
ولعلنا نلحظ فى سلوكنا نحن الكبار أيضا آثارًا لذلك السلوك القديم حين نبادر تلقائيًا، فنغمض عيوننا إذا ما وقعت على ما يثير الفزع كما لو كنا بذلك ننفى ذلك الوجود المفزع من الواقع، أو حين نحجم عن الانصياع لأوامر الأطباء فيما يتعلق بإجراء الفحوص الدورية خوفًا من اكتشاف مرض خطير؛ كما لو كنا نعتبر أن ما لا نعرفه لا وجود له، وأنه إذا كان ثمة ما يصعب مواجهته واقعيًا من التحديات المزعجة، فليس على المرء سوى أن يتجاهله فيتناساه فينساه فيختفى من وعيه، ومن ثم يختفى معه ما يسبب له الألم. 
إنه الخوف من احتمال اكتشاف «الحقيقة»، وعدم الثقة فى القدرة على مواجهتها. إنها حيلة الإنكار التى يمارسها الأطفال، ويلجأ إليها العديد من المرضى النفسيين، أما إذا انتقلت الظاهرة إلى مجال السياسة وتطبيقات علم النفس السياسى، فإن الإقدام على اصطناع وعى زائف للشعوب، وهو ما ثبت فشله على مدى التاريخ، يصبح مقامرة خطرة ساذجة.
خلاصة القول
سيظل يوم ٢٥ يناير يوم عزة وفخار، إنه يوم تمجيد الدور الوطنى للشرطة المصرية فى مواجهة جنود الاحتلال البريطانى، وهو فى نفس الوقت يوم تمجيد للشعب المصرى الذى أنجز الثورة ضد حاكم رآه فاسدًا مستبدًا. ليس من تناقض بين المناسبتين فكلتاهما مناسبة وطنية تستحق الفخر.