الخميس 23 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

٢٨ يناير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إذا سئلت عن اليوم الأفضل.. الأجمل.. الأطول في حياتي، إذا سئلت عن الشيء الذى فعلته، وأفتخر به أكثر من أي شيء آخر، فإن الإجابة التي تقفز إلى رأسي قبل غيرها هي «٢٨ يناير ٢٠١١».
في ذلك اليوم البعيد، القريب، الذى يمر عليه خمس سنوات بالتمام والكمال، نزلت من بيتي، تاركًا زوجتي وابنتي الوحيدة التي لم تكن قد أكملت عامها الثاني بعد، بهدف التعبير عن رفضي لنظام الرئيس حسنى مبارك، حتى لو كلفني ذلك حياتي.
لم أكن سوى واحد من مئات الآلاف الذين انتفضوا في القاهرة والجيزة والإسكندرية والسويس، وكل محافظات مصر بدرجات، ولكن دون استثناء، معربين عن غضبهم من الفساد والقهر وتردى الأوضاع في كل مجالات الحياة، التي باتت بائسة، وغير محتملة، ورخيصة، لدرجة الاستغناء عنها بكل سهولة، في سبيل الإطاحة بمبارك وعصابته.
لم تكن انتفاضة بطن جائع، بل كرامة مهدرة، ولم تكن ثورة منظمة بفعل حزب أو جماعة سياسية دينية، فالأحزاب والجماعات الدينية، قد تغلغل فيها الفساد منذ زمن بعيد، وأصبحت صورة باهتة من النظام نفسه، بل كانت ثورة شعب أراد الحياة، بعد سنوات وعقود من الصمت المخزي.
وسط الجموع، التي تضم مواطنين عاديين جدًا، ومثقفين، ونساء، وفقراء وأغنياء، كلهم تقريبًا يعلنون عن نفس الشيء: اقتلونا جميعًا، ولكننا لن نخاف، ولن نصمت، ولن نتراجع عن المطالبة برحيل النظام.
وسط الجحيم الذى اندلع في الشوارع، من غاز ورصاص وحرائق، كانت معادن الناس تصهر، وتتطهر، وتظهر، وفرحة عارمة، نادرة، تملأ العيون الباكية بفعل الغازات المسيلة للدموع والإحساس الوليد بالهوية، والوطنية، والقدرة على اجتراح المستحيل.. كان كل واحد من الآلاف الذين يجتاحون الشوارع، يعيد اكتشاف نفسه وبلده، يلقى بعمره الضائع للحريق، وينمو له جلد وعمر جديد وشاب أكثر نبلًا واستقامة.
الأسئلة.. تلك الأسئلة الموجعة، أتت بعد ذلك.
ما الذى يمكن أن يحدث الآن؟ هل سيرحل مبارّك فعلًا؟ وإذا رحل، من سيأتي بعده؟ هل يستولى الإسلاميون المتطرفون على الحكم؟، وهم أشد استبدادًا وجهلًا من نظام مبارك؟ هل تسقط البلد في هاوية العنف والدمار؟ هل هناك من يتآمر مستغلًا الحشود ليحقق أهدافًا سياسية تتعارض مع إرادة وآمال هذه الحشود؟
كل السيناريوهات الممكنة، كانت مفتوحة وملقاة على الرصيف. المتآمرون ربما اختفوا نهار ٢٨ يناير، ولكن بمجرد هبوط الليل اجتمعوا وبدأوا في نسج مخططاتهم للحفاظ على النظام القديم، أو للحلول محله. اللصوص خرجوا من سجونهم، بفعل فاعل، ومن بيوتهم، بفعل الفوضى، وبدأوا في استغلال الوضع لممارسة إجرامهم المتأصل.
كما رأيت بعيني أفضل وأنبل ما في الجنس البشرى يوم ٢٨ يناير وما بعده، رأيت أيضا أخس وأحقر ما فيه: رأيت الذين ألقوا بأنفسهم إلى الصفوف الأولى، فاتحين صدورهم للرصاص المنهمر، مضحين بأجسادهم وأرواحهم في سبيل الآخرين، والذين ظلوا متمسكين بإنسانيتهم وحرصهم على الأرواح والمباني في عز المواجهة، مانعين أنفسهم والآخرين من الاعتداء على رجال الشرطة المستسلمين، كما رأيت اللصوص الذين حاولوا تحطيم ماكينة الصرف الآلي في شارع قصر العيني، والذين اقتحموا محلات البقالة المغلقة في الساعات الأخيرة من الليل.
في الشوارع كانت تولد وتتشكل الثورة، الثورة الوحيدة التي رأيتها في حياتي، بحلوها، ومرها، بعقلها، وجنونها. الثورة.. تلك الكلمة التي رددناها منذ طفولتنا دون أن ندرك معناها الحقيقي.
حسب الثقافة التي نشأنا عليها، فإن كلمة «ثورة» ارتبطت دائمًا بالتمرد الشعبي ضد الاحتلال الأجنبي، مثل تمرد سكان القاهرة ضد جيش نابليون أو مظاهرات الشعب في ١٩١٩، أو ضد الاحتلال الأجنبي وأعوانه مثل «حركة الجيش» التي باركها الشعب في ١٩٥٢.
فيمّا عدا ذلك لا يطلق عليه ثورة، بل «انتفاضة» أو «شغب» أو أحداث عنف.
وبالرغم من أننا قرأنا ودرسنا بعض المعلومات عن الثورة الفرنسية في ١٧٨٩، والثورة الشيوعية في ١٩١٧، وعن العنف الهائل الذى صاحبهما، وسبقهما، ولحقهما، لسنوات طويلة تتجاوز العشرين في الحالتين، إلا أن كلمة «الثورة» ظلت مرتبطة في أذهاننا بفعل التغيير السلمى لنظام الحكم الذى حدث في مصر بعد ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
من قال إن الثورة حدث سلمى، أو إيجابي بالضرورة؟
الثورة في علمي السياسة والاجتماع، كما فى علم الأحياء، هي تغير وتحول مفاجئ لحركة التطور الطبيعية، البطيئة، وغير الملحوظة، عادة. ولأنها «غير طبيعية» فهي تكون في الغالب حادة وعنيفة وسريعة، ومصحوبة بالفوضى التي هي عكس النظام.
ووفقًا لعلم التاريخ، لا توجد ثورة واحدة حققت أهدافها أثناء الفعل الثوري، أو في أعقابه مباشرة.

عادة تتحقق الأهداف بعد سنوات طويلة جدًا، وبعد مراحل كثيرة من الصراع المرير بين القديم والجديد. وفقًا للتاريخ أيضًا، كل الثورات تحقق أهدافها في النهاية، لأنها تترك أثرها في المجتمع إلى الأبد، مهما حاول النظام القديم أن يمحوها، ومهما حاول هذا المجتمع أن ينكرها وينساها. في الأيام التالية لـ٢٨ يناير، في الميدان، رأيت أجمل البشر، الذين تخلوا عن كل شيء في سبيل الوطن، كما رأيت مناورات ومؤامرات الأدنياء الذين اندسوا وسعوا إلى خطف الثورة، لصالح نظام حكم رجعى، أكثر تخلفًا واستبدادًا وفسادًا. لكل المتشائمين المحبطين، والمتآمرين الواهمين، أقول لهم اقرأوا التاريخ، وانظروا إلى العالم من حولكم، من أوروبا وآسيا حتى أمريكا اللاتينية وإفريقيا.. ثورة الحرية والكرامة والعيش، التي حلمت بالديمقراطية السياسية، والتقدم العلمي، والتعايش الحضاري، لا يمكن أن تموت.