الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

العدالة الانتقالية.. ماسبيرو تنتظر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
سيظل الأقباط الرقم الصعب فى المعادلة المصرية، لا يمكن تجاهله أو خصمه من المعادلة، ربما لكونه المكون الأقدم فى المنظومة البشرية المصرية، وربما لصمودهم المتكرر أمام موجات استهدفتهم، تراوحت بين الإبادة والإقصاء، حتى أنهم ابتكروا تقويماً خاصاً بهم، وهو التقويم القبطي، الذي يطلق عليه “,”تقويم الشهداء“,”، اختار الأقباط يوم تولي الإمبراطور الروماني “,”دقلديانوس“,” الحكم ـ 284 ميلادية ـ بداية لتقويمهم، لكون عصره هو ذروة اضطهاد المسيحيين في العصور القديمة، وربما لأنهم استطاعوا أن يحتفظوا بروح مصر في ثنايا عباداتهم وطقوسهم، وكانت الكنيسة خزينة التراث، وما زالت.
فطنوا مبكراً لأهمية تسجيل تاريخهم، زاداً لأجيالهم وشاهداً على صمودهم، فى مواجهة تغافل متواتر لم يختلف عبر العصور، وإن اختلفت مبرراته، كان رائد التدوين شاب من بني سويف، فى منتصف القرن الثالث الميلادي، من قرية “,”أقفهص“,” التابعة لمدينة الفشن ـ يوليوس الإقفهصي ـ وهي واحدة من القرى التي ظلت محتفظة باسمها حتى لآن، تدرج في الوظائف ليصل إلى وظيفة كاتم أسرار السجن (مدير إدارة السجلات)، الأمر الذي سمح له بالاطلاع على وثائق قضايا اعتقال وتعذيب واستشهاد الأقباط فى بدايات عصور الاضطهاد، ومنها اعتمد على توثيقه لهذه المرحلة، ليؤسس لمدرسة التأريخ القبطي، ولم تنقطع اجتهادات التدوين حتى اليوم.
وعبر كتاب “,”ماسبيرو.. أسرار وكواليس“,”، للكاتب الصحفي الشاب هاني سمير، والذي صدر مواكباً لذكرى الحدث التي تحل في 9 أكتوبر، يتواصل التدوين والرصد مجدداً لمعاناة الأقباط، وإن اختلفت الحكايات والدوافع، وهو في ظني لا يستهدف إقامة مأتم يندب فيه الأقباط حظهم ويتباكون على حالهم، إنما هو توثيق لواقع، عبر محررات رسمية احتلت العديد من صفحات الكتاب، لا يميل إلى التراشق وافتعال البطولات أو كيل الاتهامات، وتأتي أهميته لكونه المادة الخام التي يعتمد عليها من يقوم بالتأريخ مستقبلاً لهذه الفترة التي يرصدها الكاتب، بعد أن يختفي أبطال المرحلة من مسرح الحياة، فيصبح التناول مجرداً من انحيازات اللحظة أو ضغوطها أو مواءماتها.
ويحسب للكاتب أنه لم يكتفِ بالرصد والتوثيق، بل صدَّر كتابه بقراءة ما وراء الحدث، والمدخلات التي كرَّست لاستفحال المناخ المنتج لهذه الحالة، الذي لم ينزعج لاستهداف الأقباط، بل دفع بتأويلات تخفف من كارثيتها، بل ويتبرع بتسميتها بغير حقيقتها، ويحيلها إلى مسمى “,”الفتنة الطائفية“,”، دون سند من الواقع الذي شهد أعمالاً إجرامية استهدفت الأقباط تحت وابل من التأويلات التراثية والدينية، فى غياب للقانون، أو لنقل في استبدال له بالحلول العرفية التي تنقضّ على الدولة فى أهم أركانها ودعائمها، فكان أن تناول الكاتب قضايا القانون والتعليم والإعلام، باعتبارها الأدوات التي تشكل الذهنية الجمعية، وبحكم تخصصه الإعلامي والصحفي لم يقف عند حدود التنظير، بل رصد وطرح نموذجاً حياً وناجحاً، ولد واستقرَّ في أعرق الديمقراطيات، نموذج هيئة الإذاعة البريطانية BBC ، نقل لنا معايير العمل فيها وضوابطه، والمبادئ المهنية التي تحكم العمل داخلها، وآلية تصحيح مسارها ليصب فى النهاية لصالح المتلقي، حتى لا تزيف عليه الخدمة الإعلامية، وكيفية تمتع العمل بالاستقلال عن السلطة التنفيذية، والذي يحقق لها حيادية حقيقية معاشة.
وعندما ينتقل الكاتب لرصد الأحداث، لا يغفل التواصل التاريخي، والتصاعد الدرامي لها، ولا يغيب عنه إسهامات هذه الأحداث والحوادث فى التكوين الجنيني لزلزال 25 يناير، الذي سبقته بروفة صوت وصورة وفعل في أحداث العمرانية، التي قدمت لنا أول مواجهة بين مواطنين عُزل، وبين سلطة بكامل تسليحها، وكيف انكسرت القوة أمام الحق، وكانت ملهمة لشباب يناير، وقد كسر حاجز الخوف المصنوع.
هذا الكتاب التحليلي والتوثيقي، يحسبه الكاتب بلاغاً للنائب العام، يضعه أمام مسؤولياته باعتباره نائباً عن عموم الناس، له حق تحريك الدعاوى الجنائية، خاصة فى الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، ومنها كل ما ورد فى صفحات هذا الكتاب، والتي حفظت فى أغلبها، أو أحيلت إلى الحلول العرفية التي ترتد بنا من الدولة إلى القبيلة، وسوف ينظر إلينا عبر التاريخ، بعد أن نلملم أوراقنا ونخلي أماكننا للأجيال اللاحقة، باعتبارنا جيلا ضاع الحق بين أهله، لحسابات وتوازنات ضيقة.
والكتاب أيضاً جرس إنذار، ورسالة تنبيه لأولي الأمر، أن انتبهوا لحاجتنا الملحَّة لإعادة هيكلة منظومات القانون، ومن ثمَّ القضاء، والإعلام بكل وسائله المقروءة والمسموعة والمرئية، وتحديد الضوابط والأهداف المهنية، والتعليم بكل أركانه، المعلم والمدرسة والمناهج والمناخ التعليمي، والثقافة، كتاباً وفناً ومسرحاً وإبداعاً، بجدية وموضوعية، وعلى أرضية مصرية حقيقية، فهل هناك آذان تسمع وعيون تبصر؟!.
نحن فى النهاية بصدد كتاب يتجاوز القراءة العادية، ويضعنا أمام واقع يستعصي على التبرير أو التهوين، أو حشد الدفوع التي تتلمَّس أعذاراً لمرتكبي سلسلة الجرائم المرصودة، بل تمتد صفحاته إلى من يختفون خلف جدران التطرف، ومعهم أجندات مناوئة لمصريتنا، ومهددة لوطننا.
ويبقى أننا أمام صفحات تمارس معنا عصفاً ذهنياً، يدفعنا للانتباه لواقع محمَّل بمخاطر، وتمتلئ مياهه بألغام قيد الانفجار، نملك - لو توفَّرت لنا الإرادة - أن نواجهها ونفككها.
أتمنى على الكاتب الشاب، أن يواصل مسيرة البحث والرصد والتسجيل والتحليل، فذاكرة التاريخ لا تنشط إلا بهذه الأعمال الجادة والمقلقة والمجهدة والفاعلة أيضاً، وهو قادر على ذلك سعياً لوطن يقوم على الحرية والعدالة، ويتطلع لغد أفضل.
ولا يمكننا أن ننتقل إلى عهد جديد يؤسس للجمهورية الثانية، إلا بعد أن تتحقق العدالة الانتقالية التي تصفِّي ما علق بنا من عصرين سابقين من تداعيات، تستوجب التصحيح والإحالة إلى القانون، لرد الحقوق ورفع المظالم والتصالح مع الوطن بشروط الوطن، وفيها يكتسب الكتاب أهمية خاصة كوثيقة على منصة العدالة، حتى نبدأ بشكل جاد فى بناء وطن يعيش الاندماج، ويُعَبِّد الطريق لتنمية حقيقية تقوده لمكانه الصحيح بين الدول الكبرى، والإقتصادات القوية.