الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حصار الثقافة "١-٣"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رغم أنى من دعاة إلغاء وزارة الثقافة إلا أنها ما دامت موجودة، فسأتحدث عن حصار الثقافة، سيندهش الكثيرون، ربما يندهش المسئولون أنفسهم فالواضح أنه لا أحد يحاصر الثقافة فما أكثر المؤتمرات والمهرجانات وما أكثر الكتب المنشورة وسلاسل الكتب الحكومية وهذا كله صحيح إلا أننى أرى أن حصار الثقافة فى مصر قائم وكبير من جهات رسمية وجهات شعبية وأفراد أيضا، ولقد رأينا كيف لم تتحمل السلطة مهرجانا مثل «الفن ميدان» وكيف أغلقت مسرح وقاعة تاون هاوس، ورأينا كيف حكم على إسلام بحيرى بسنة سجنا لأنه تجرأ على تجديد الخطاب الدينى، ورأينا كيف صار فصل من رواية للشاب أحمد ناجى عملا سيضيع الأمة! على أنى سأتحدث فى الأوضاع على الإجمال.
أولى هذه الجهات الرسمية وأهمها على الإطلاق التى تحاصر الثقافة هى وزارة التربية والتعليم التى لم يعد لمكتباتها المدرسية معنى وافتقدت أى حصة من الحصص للقراءة الحرة، وتقلصت أو انتهت فيها الجماعات الأدبية والفنية التى كانت على أيامنا، حيث كانت هناك جماعات البلاغة والخطابة والشعر والتمثيل والموسيقى وغيرها، وكان هناك أكثر من حصة فى الأسبوع للقراءة الحرة فى المكتبات المدرسية، وكانت تقام المسابقات بين المدارس فى ذلك كله، ناهيك عن المسابقات داخل المدرسة الواحدة.بالنسبة للمكتبات فإذا سألنا عن تزويد هذه المكتبات والقائمين على هذا التزويد سنجد أن الإنتاج الأدبى الجديد -منذ أكثر من نصف قرن والله وليس الجديد- كله تقريبا لا يصل إلى هذه المكتبات لأنه طبعا لا يخلو من جنس مثلا أو بعض الحوارات الجريئة، وإذا نظرنا إلى مقررات النصوص فى المرحلة الثانوية سنجد أنها تخلو تقريبا من كل الشعراء باستثناء قصيدة لفاروق شوشة وأخرى لمحمد إبراهيم أبو سنة، ولا أعرف هل ما زالتا أم لا ولن تجد فيها شيئا لأدونيس أو أحمد عبدالمعطى حجازى أو صلاح عبدالصبور أو بعد ذلك من شعراء السبعينيات ومن بعدهم، ولا حتى درس واحد يتحدث عن هذه الحركات الشعرية.. الأمر نفسه فى القصة فليست إلا قصة «نظرة» ليوسف إدريس من زمان ولا توجد دروس عن حركة التجديد فى القصة والرواية فى مصر والعالم العربى -كان هناك درس ينقصه الكثير منذ أكثر من عشر سنوات ولا أعرف هل لا يزال أم لا- وكذلك حالة القصة والرواية الآن، والرواية المقررة تظل مقررة لعشرات السنين، وإذا تغيرت يكون ذلك لأسباب أخلاقية فجأة أو لأن مؤلفا من الوزارة كتب رواية لا معنى لها، كما لا تفكر الوزارة أبدا فى ترشيح كتب إبداعية لطلابها للقراءة الصيفية التى لا يترتب عليها أى امتحان.. والأمر نفسه ينطبق على المسرح وتاريخه وما حدث فيه فى مصر ويحدث وما حدث فيه فى العالم ويحدث، أما السينما فالشر بره وبعيد لا ذكر لها ولا تاريخها ولا نجومها العظام، فهذا كله كفر والعياذ بالله.. لا تجد شيئا من ذلك فى كتب النصوص ولا كتب القراءة وهكذا يظل الطلاب معزولين عن الحياة الثقافية حولهم، وباعتبار أنه لا وقت لديهم إلا المجموع آخر العام فهم يأخذون ثقافتهم من التليفزيون إذا وجدوا فيه ثقافة، وبالطبع هم لا يعرفون أن هناك قناة ثقافية وحتى لو عرفوا فلن يروها لأنه ليس فيها ما يدرسونه من كلاسيكيات قديمة كان يكفيها درس واحد ثم إنه فى معظم دروس القراءة والنصوص لا يذكر المؤلفون مراجعهم فى البحث، فلا تقع عين الطالب على اسم كتاب آخر فى الموضوع قد يشده العنوان ويدفعه الفضول إلى قراءته أو النظر فيه.. وإذا نحينا ذلك كله جانبا ولا أعرف كيف لأنه أساس المشكلة فلا توجد مدرسة واحدة تقيم ندوة لطلابها مع أحد الأدباء الكبار ولا أحد الفنانين على مدار العام رغم أن ذلك له تأثير عظيم على الشباب الصغير فأن يرى الشاب كاتبا كبيرا عادة ما يكون حلما جميلا ومصدر سعادة لا ينساه طول حياته.. وبالطبع لا تصحب المدرسة طلابها إلى أى مسرحية أو فيلم سيمائى جميل.
وزارة التربية والتعليم من زمان أحد كفلاء مشروع مكتبة الأسرة ولا أعرف هل هى مستمرة أم لا، كانت تقوم باقتناء عدد من إصدارات المشروع لكنها توضع فى المكتبات التى لا يدخلها أحد ولا تقام حولها أى ندوة ولا ترشح للقراءة وهكذا فهى نسخ مفقودة لا فائدة منها إلا ما تدفعه الوزارة من سعر لها، وهكذا حتى فى المشروع الذى تساهم فيه لا تجنى فائدة ما منه.
سيبدو هذا الكلام نوعا من الترف إذا عرفنا العملية التعليمية ذاتها وما لحقها من ضرر، حيث لم تعد المدارس مكانا للعلم أصلا وحضور الطلاب إليها أمر استثنائى لأكثر من ثلاثين سنة الآن ومنذ تعقدت العملية التعليمية بنظم ما أنزل الله بها من سلطان مثل نظام التحسين الذى ثبت فشله ونظام إلغاء السنة السادسة الذى ثبت فشله وحتى بعد رفع كادر المعلمين الذى لم يأت بجديد على مستوى سلوك المعلم الذى لم يكف عن الدروس الخصوصية ولن يكف بسبب الرعب من المجموع.. هذه المسألة التى حيرتنى طول حياتى لسبب بسيط جدا أسأله لنفسى دائما ماذا لو عادت المدارس إلى طبيعتها التى كانت عليها قبل ثورة يوليو وبعدها حتى ستينيات القرن الماضى؟ أقصد مدارس تقدم العلم والثقافة العامة معا، تلك التى أشرت إلى كثير من مظاهرها فى أول الكلام.. سيحصل الطلاب على مجاميع أقل وساعتها ستضطر الكليات إلى خفض نسب المجاميع المطلوبة أيضا لكن سيكون الطلاب قد حصلوا مع العلم كثيرا من الثقافة التى تجعلهم شخصيات إنسانية حقيقية وليس مجرد حفظة لما يدرسون ثم ينسون.. وطبعا إذا أضفنا إلى ذلك الأنشطة الفنية والرياضية سيخرج الطلاب من مدارسهم أصحاء عقلاء كما ينبغى أن يخرجوا وسيحبون المدرسة.
وضع الثقافة فى النظام التعليمى المصرى محور هام وخطير يجب أن يكون أساسيا فى الارتقاء بالعملية التعليمية وفى المقال المقبل نتحدث عن الثقافة والإعلام الذى هو الجهة الرسمية الثانية التى تحاصر الثقافة.