رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نحن نصنع الإرهاب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الحرب ضد الإرهاب مصطلح شديد الاتساع، يتوقف معناه على تحديد المتحدث لما يعنيه الإرهاب بالنسبة له. إن من يوصف بالإرهابى قد يوصف من قبل ممارسى ذلك الإرهاب بالبطل الفدائي؛ ولذلك ينبغى أن نحدد طبيعة ذلك الإرهاب الذى يواجهنا تحديدًا دقيقًا، فمن خلاله نستطيع أن نميز بين حربنا على «هذا الإرهاب»، وحروب سابقة خاضتها أمتنا ضد الفرنسيين والإنجليز والإسرائيليين، ومن ثم نستطيع أن نحدد توقعاتنا لمسار تلك الحرب واحتمالات نهايتها.
لقد كنا خلال حروبنا السابقة «التقليدية» نواجه «أغرابًا» يتحدثون بغير لغتنا، تختلف ملامحهم عنا، ويتسمون بغير أسمائنا، وينتمون لحضارة غير حضارتنا، لهم بلادهم «الأصلية» التى قدموا منها بحيث كان شعار «اخرجوا من بلادنا» يعد تلخيصًا مكثفًا لطبيعة تلك الحروب وكانت مؤشرات النصر أو الهزيمة غنية عن البيان، إذا رحل أولئك الأغراب فقد انتصرنا وطالما بقوا علي أرضنا ظلت المعركة مستمرة.
حربنا الدائرة اليوم لا نواجه فيها «أغرابًا» بالمعنى السابق، إن من نواجههم اليوم يتحدثون لغتنا وتنتمى غالبيتهم لحضارتنا العربية، ويمارسون العبادات الدينية التى نمارسها، إنهم لا يشكلون جيشًا من الأغراب الذين يسهل تمييزهم عنا، إنهم جزء منا، وقد سبق أن نشرت عام ٢٠٠٢ أى منذ ما يزيد علي أربعة عشر عامًا دراسة بعنوان «بن لادن وأسطورة الابن الضال»، كما نشرت عام ٢٠٠٥ دراسة حاولت فيها تفسير انتشار فكر القاعدة فى المنطقة العربية، وفى عام ٢٠٠٨ نشرت بحثًا بعنوان «فكر القاعدة بين روافد القبول وإمكانات الانتشار».
وقد حاولت فى تلك الدراسات، وما تلاها أن أؤكد أمرين متكاملين: الأول أن غالبية من يمارسون ذلك الإرهاب، إنما هم من أبنائنا؛ والأمر الثانى أن إدارة ذلك الإرهاب تتم بعيدًا عن بلادنا، ومن ثم فإن اختزال الأمر كله فى أن ثمة فريقًا منا شرد وضل الطريق، سوف يخفى عنا تلك الأصابع الممتدة من بعيد تحرك وتمول وتسلح وتكفل غطاء إعلاميًا ومأوى آمنا للإرهاب، ومن ناحية أخرى فإن اختزال الأمر فى أنه مجرد مؤامرة أجنبية تستأجر مجموعة من المرتزقة تسعى إلى تدميرنا، سوف يجعلنا نغفل مسئوليتنا تربويًا وإعلاميًا، بل وسياسيًا عن ترسيخ تربية تخلق التربة الصالحة لانزلاق شبابنا فى غواية ممارسة الإرهاب.
ولعل الميل إلى إلقاء المسئولية كاملة على العامل الخارجى الأجنبي؛ كان يمثل إغراء نفسيًا وقع فى شباكه الكثيرون منا؛ فتلك النظرة القاصرة تعفى ضمائرنا من عبء مسئوليتنا عما جرى ويجري؛ وتوقع فى روعنا أننا حيال شعب آخر يختلف عنا، ومن ثم فإنها تدفعنا للتمسك بأساليبنا التقليدية فى التربية وخاصة التربية الدينية.
إننا حيال ما أطلقت عليه منذ التسعينيات مصطلح «صراع المتشابهين»؛ حيث ناقشت الفكرة الشائعة حول أنه كلما قل التشابه بين أطراف الصراع ـ أى كلما أصبح العنف خارجيّا ـ ازداد ضراوة، وكلّما كان تبادل العنف بين أطرافٍ هناك ما يجمع بينها، خفت وطأته، وأوضحت أن ذلك قد يكون صحيحًا إذا ما كنّا بصدد المقارنة بين نوعيّات الأسلحة، أو شموليّة الدمار، أو نظاميّة الجيوش.. إلخ.
ولكنّ الأمر على النقيض خاصة من وجهة النظر النفسيّة. فكلّما توثّقت أواصر القربى، واتسعت الأرضيّة المشتركة بين الأطراف المتصارعة، كان الصراع أشد شراسة، وأصعب حلّاً، وأعمق جذورًا، وأكثر تعرضًا للعودة إلى الاندلاع من جديد. إننا نواجه آنذاك إرهابًا يهدف إلى سيادة الهوية الدينية على هويتنا السياسية الوطنية، ومن ثم تذويب الدول وإعادة ترسيم حدودها.
لقد كانت هوياتنا السياسية الوطنية متعايشة بشكل أو بآخر مع هوياتنا الدينية؛ ترى متى؟ ولماذا؟ وكيف؟ بدأت عملية تفجير ـ وليس تفجر ـ تلك الهويات؟ لعله من اللافت للنظر أن التخطيط لعملية التفجير هذه موثق منشور.
ثمة ثلاث وثائق منشورة بلغة أصحابها ومترجمة ومنشورة أيضا بالعربية، وقد عرضت لها فى ندوة عقدها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية عام ٢٠١٤ عن «مستقبل الثقافة العربية الإسلامية الوسطية».
الوثيقة الأولى للمستشرق المعروف برنارد لويس نشرها عام ‏١٩٧٩‏، والوثيقة الثانية نشرت فى فبراير ١٩٨٢ تحت عنوان «استراتيجية إسرائيلية للثمانينيات» فى مجلة تصدرها المنظمة الصهيونية، والوثيقة الثالثة تقرير نشرته مجلة القوات المسلحة الأمريكية فى يوليو ٢٠٠٦ تحت عنوان «حدود الدم: كيف يبدو الشرق الأوسط أفضل» ويقصد بها حدود الانتماء العرقى الدينى.
واندفعت من الغرب آلات إعلامية ضخمة، تساندها خبرات نفسية متخصصة فى آليات الحرب النفسية، لإعادة تشكيل الوعى العربى اعتمادًا على عدد من الدعائم النفسية الأساسية، تمثلت الدعامة الأولى فى: استغلال نزعتنا الطبيعية للتدين، ومن ثم الدفع لتبنى التأويل المتشدد العنيف للدين، وتتمثل الدعامة الثانية فى ترسيخ نظرة إلى العالم باعتباره فريقين لا ثالث لهما ولا وسط بينهما، وتتمثل الدعامة الثالثة فى ترسيخ الاعتقاد بأن العنف، هو السبيل الأوحد للقضاء على الشر، وتضافرت تلك الدعامات الثلاث لتضعنا فى مواجهة الإرهاب.
ولا شك أن مواجهة الرصاص بالأفكار عبث لا معنى له، ولكن الاقتصار على المواجهة المسلحة، وترك المنابع الفكرية الدينية الداخلية على حالها يؤدى إلى استمرار صناعة إرهابيين جدد أكثر حنكة وأشد مراسًا.