السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قَدَر مصر وخرائط ما بعد الصراع

الدكتور عبدالرحيم
الدكتور عبدالرحيم علي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


منذ أن اكتشف المصريون حقيقة وضع بلادهم وأهميتها الجغرافية والتاريخية، كواحدة من أهم بقاع الأرض صناعة للتاريخ وتشكيلا للحضارات وبناء للأمم، فى التاريخ القديم والحديث، راحوا يخططون ويبنون استراتيجياتهم على هذا الأساس، فمصر ليست دولة من تلك الدول التى تملك رفاهية الانكفاء على ذاتها، سواء للبناء أو التنمية، أو حتى كفاية لشر النفس أو الغير، فلا موقعها الجغرافى الحيوى فى قلب العالم، ولا مكانتها التاريخية يسمحان لها بذلك.

 

وظل المصريون حكامًا ومحكومين يعملون وفق تلك الصيغة، سواء أبناء محمد على الذين حكموا مصر لما يقرب من قرن ونصف، أو ثوار يوليو الذين حكموا من بعدهم، وظل الساسة، سواء كانوا فى السلطة أو المعارضة، وأجهزة المعلومات، سواء الداخلية منها أو الخارجية، يتعاملون وفق تلك الصيغة، مدركين كافة أبعادها السياسية والأمنية، تلك الأبعاد التى تفرض على القاهرة التمدد والتأثير فى أى بقعة من العالم، تؤثر أو تتأثر بأمن مصر القومى، حدث ذلك فى عصر الرئيسين عبدالناصر والسادات، وتواصل طوال العشرين سنة الأولى من حكم الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، فماذا حدث لنا وبنا فى العشرية الأخيرة التى سبقت ثورة 25 يناير 2011؟!

 

لسنا هنا بصدد محاكمة أحد أو الهجوم على أحد، فالرئيس مبارك كما أكد هو نفسه، فى آخر خطاب وجهه للأمة، قدم ما قدم لمصر انطلاقا من إحساس بالمسئولية الوطنية، وسيحكم التاريخ له أو عليه. ولكننا اليوم نعرض لمجموعة من الأفكار نرى أنها التى تم تبنيها وتطبيقها فى العشرية الأخيرة من حكمه، أضرت ضررا بالغا بوضع مصر وأمنها القومي، وما زلنا ندفع ثمنها غاليا حتى الآن.

 

لقد أطلق البعض، من قادة ما سمى «الفكر الجديد فى الحزب الوطني»، فى بدايات الألفية الثالثة 2001، مفهومًا جديدًا للأمن القومى المصرى قالوا إنه الأكثر شمولًا، حيث توافر الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وتحقيق مستويات الرفاهة، ثم الانتقال لمستوى تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة لضمان تنمية قدرات ومُقدرات الدولة، وأصبح ذلك التعريف هو التعريف الإجرائى والعملى والاستراتيجى لمفهوم الأمن القومى المصرى منذ ذلك التاريخ. وهو مفهوم قد يصلح لعشرات الدول المتقدمة التى ليس لها ظروف مثل ظروف مصر. لقد نسى هؤلاء، أو غاب عنهم، أن مصر ليست من تلك الدول التى يصلح معها هذا المفهوم، لأنها ببساطة مطمع قديم لكل الإمبراطوريات التى حكمت العالم، والتى تسعى للسيطرة عليه حتى الآن، وأن تمزيقها والسيطرة عليها وتركيعها أحد المخططات المهمة التى تسعى إليها دول ومحاور بعينها تريد السيطرة على المنطقة، وتعرف أنها بدون مصر ضعيفة ومفتتة وتابعة لن تستطيع تحقيق ذلك الحلم.

 

مصر هى قلب الأمة العربية النابض وأهم طرق التجارة العالمية ومركز من مراكز الكون المهمة، حقائق لم يلتفت إليها واضعو نظرية الأمن القومى الجديدة لمصر، لم يلتفت هؤلاء للمؤامرات التى تحاك ضد مصر من قبل محاور عديدة، بعضها يريد تقزيم دورها لصالحه كإيران، تلك الدولة التى ما زالت تحلم بعودة سيطرتها كامبراطورية فارسية على العالم، وبخاصة الشرق الأوسط، وكذا إسرائيل ومن ورائها أمريكا والغرب، الذين يحلمون بامبراطورية صهيونية تمتد من النيل حتى الفرات، سواء جاءت تلك الإمبراطورية على أسنة الرماح، أم جاءت على ورق البنكنوت وأسهم البورصة وسندات البنوك وحصص الشركات عابرة القارات، والأسواق المشتركة.

 

لم يلتفت هؤلاء لحجم المؤامرة التى بدأت تفعل فعلها على الأرض فى غيبة من أجهزة المعلومات التى جرى تقزيمها وتحجيمها لصالح تلك الرؤية الجديدة، رؤية الانكفاء على الذات ووضع المصالح المصرية الداخلية كأولوية قصوى فى النظر إلى العالم.

 

وبدأ البعض من أصحاب التوجه الجديد، ينظرون إلى الرؤية التى تقدمها أجهزة المعلومات، وبخاصة أجهزة الاستخبارات المصرية، باعتبارها مجرد دفاع عن وضع قديم تم اكتسابه، ولا يريد أصحابه التخلى عنه، وهكذا ببساطة اختصر أصحاب الفكر الجديد، دفاع أجهزة المعلومات والأمن القومى عن رؤيتهم لمصر ودوروها ومكانتها، وتم حسم الصراع بين الطرفين بانحياز الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك لأصحاب النظرية الجديدة، وإلقائه بمجمل أوراق اللعبة فى أيديهم.

 

منذ ذلك التاريخ وبالتحديد منذ بداية الألفية الثالثة، عام 2001، بدأت خطوات جديدة تعلى من قيم المصرية على العروبة والإسلام، وتخلى مصر عن مسئولية أمن محيطها العربى والأفريقى والإسلامي، تلك الدوائر التى صنعت ولعشرات السنين دوائر الأمن القومى المصري، حتى جاءت ثورة 25 يناير وبدت الحاجة ملحة لأجنحة مصر التى كانت تحميها وتتدخل عند اللزوم للجم البعض ممن يحاول الضغط عليها، أو القيام بأعمال عدائية ضدها، وضح ذلك بشدة من استئساد أحزاب وحركات مسلحة صغيرة مثل حركة حماس فى غزة وحزب الله فى لبنان على مصر، وبدا واضحا للجميع أننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا يقول إننا دولة كبرى لا يجوز التطاول عليها بهذا الشكل، على الرغم من نجاحنا فى تحقيق نسب نمو اقتصادية عالية، تلك التى لم تساعدنا فى الصمود أمام من أرادوا ابتلاع البلاد، مستغلين ثورة الشعب المصرى فى 25 يناير.

 

الغريب أنه لم يقف أحد ليدرس ماذا جرى ولماذا، وما هى تلك القوة الوحيدة التى وقفت ضد خطة ابتلاع مصر وتصدت لها بهدوء وحزم، ولماذا نجحت فى مهمتها الشاقة والمستحيلة تلك، لماذا استطاعت القوات المسلحة المصرية أن تحمى مصر من تلك المخططات وأن تعبر بها إلى بر الأمان؟!

 

لقد ظلت القوات المسلحة خلال تلك العشرية من السنوات بعيدة تماما عن استخدام أو تطبيق تلك الرؤية، ولم يطبق عليها أى مبادئ من مبادئ الفكر الجديد، ظلت مدركة لأهمية دورها كدرع، ليس لمصر وحسب وإنما للعرب جميعهم، كما ظلت مدركة لعقيدتها باعتبارها قوات دفاع عن الأمن القومى المصرى ليس ضد الجيوش المهاجمة وحسب، وإنما ضد كل من تسول له نفسه النيل من أمن واستقرار مصر داخليا وخارجيا، وهو ما نفع المصريين بعد إرادة الله سبحانه وتعالى فى استرداد بلادهم التى تم اغتصابها لعام كامل، هو عام حكم الجماعة الإرهابية.

 

وفيما بعد اتضح بالطبع مدى الضعف الذى وصلت إليه الذراع المصرية، التى كانت توصف بالطولى، عندما حدث ما حدث على حدودنا الغربية فى ليبيا، والشرقية فى سيناء، وكذا ما جرى ويجرى فى ملف مياه النيل، وأخيرا ما حدث ويحدث فى اليمن. وأفاقت مصر على كارثة، ذراع قصيرة وضعيفة ومؤامرات متشعبة ومكثفة، وهنا بدأ العمل بقوة على استعادة تلك الذراع الطولى والقوية، لاستعادة هيبة مصر وقدرتها على الردع، حتى بدون استخدام القوة، أو إرسال الجيوش، بالطبع أمامنا سنوات عديدة حتى نصل 2001، بـ2015، ونجسر الفجوة التى دامت أربعة عشر عامًا، لكننى على ثقة من أن القائمين على هذا العمل الجبار يصلون الليل بالنهار، ويعملون طوال الأربع والعشرين ساعة، كل ساعة بعشر أمثالها، لكى يجسروا الهوة فى سنوات أو شهور معدودة، وعلينا نحن أن نتفهم ما جرى ويجري، نخبا ومواطنين، حتى ندرك حجم المسئولية التاريخية الملقاة على أكتافنا. إن الصراع فى المنطقة سواء مع السعودية أو دول الخليج لن يحسمه سوى دخول مصر إلى حلبته بشكل عاجل، حتى لو خسرنا على المدى القصير، فالنصر حليفنا على المدى الطويل، فذلك قدر مصر، وقدرنا.