الخميس 23 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

ثورة "أحمد عدوية"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لرائد البحث الإعلامى الأمريكى مارشال ماكلوهان كتاب بعنوان «الوسيط هو الرسالة» منشور فى الستينيات، مع اكتمال الثورة التى أحدثها ظهور التليفزيون، يتوصل فيه إلى فكرة مبتكرة خلاصتها أنه بغض النظر عن المضمون الذى تستخدم فيه التكنولوجيا، فإنها تسهم فى تغيير الثقافة والعادات والتقاليد والمجتمعات، ويضرب ماكلوهان مثلًا بالمصباح الكهربائى الذى ليس له مضمون فى حد ذاته سوى الإضاءة، ولكن ظهوره وانتشاره غيّرا حياة البشرية إلى الأبد، فقد أصبح بإمكان الناس السهر حتى مطلع اليوم التالى وممارسة نشاطات «ليلية» كثيرة بداية من العمل، وحتى النشاطات الترفيهية مثل السهر خارج المنزل أو داخله.
اكتشاف الكهرباء والمصباح الكهربائى، حرر الإنسان من الخوف من الظلام، ومن تقسيم اليوم إلى نهار للحياة وليل للنوم، وأضاف للناس عمرًا إضافيًا فوق أعمارهم، واتساع ما يعرف بـ«أوقات الفراغ» التى يمكن تمضيتها فى مجالات كثيرة مثل القراءة أو الملاهى والمقاهى والمسارح ودور العرض السينمائية.
حتى تعرف ما أحدثه المصباح الكهربائى فى العالم، لن تحتاج إلى زيارة قرية أو جزيرة صغيرة لا تعرف الكهرباء، ولكن تذكر فيها الساعات السوداء التى تمر عليك مقبوض القلب، يعذبك القلق والضجر، عندما تنقطع الكهرباء لبعض الوقت.
يرى ماكلوهان أن التليفزيون أحدث ثورة اجتماعية لا تقل عما أحدثه اكتشاف الكهرباء والمصباح، وأنه بغض النظر عن نوعية ومستوى المواد التى يبثها هذا التليفزيون أو غيره، فإن النتيجة سوف تتشابه، وهى حضور العالم الخارجى داخل محيط المنزل والأسرة. 
أهم ما فى السينما مثلًا ـ كما يرى ماكلوهان ـ أنها غيرت مفهومنا عن الزمن، بفضل قدرتها على اختزال الزمن واللعب به عبر المونتاج، وبالتالى فقد أسهمت فى توسيع فهمنا للزمن بحيث أصبح بإمكاننا تصوره وتخيل العيش فيه. السينما، بمعنى آخر، غيرت نظرتنا إلى العالم باعتباره يسير فى خط مستقيم: الماضى والحاضر والمستقبل، إلى مفهوم أكثر سيولة تختلط فيه هذه الأزمنة، ويمكن معها استرجاع الماضى أو القفز إلى المستقبل أو البقاء فى لحظة ما إلى ما لا نهاية.
يقول مؤرخو الموسيقى إن اختراع الميكروفون غيّر تاريخ الأغنية، فقبل ذلك كان الشرط الأول للنجاح كمغنٍ هو الصوت العالى، حتى يصل إلى أكبر عدد من المستمعين، وبعدها أصبح الشرط الأول هو حلاوة الصوت وتفاصيله الدقيقة التى ربما لا تظهر فى الصوت العادى المباشر، ولا تتجسد إلا عبر الميكروفون. لذلك لا يمكن تخيل نجومية عبدالحليم حافظ قبل ظهور الميكروفون، كما لا يمكن تخيل نجومية أحمد عدوية، قبل ظهور شرائط الكاسيت، أو نجومية حميد الشاعرى ورفاقه قبل ظهور جهاز مزج الأصوات متعدد المسارات، أو نجومية هيفاء وهبى قبل انتشار قنوات الفيديوكليب.
لم تكن ظاهرة أحمد عدوية إذن سوى التجسيد الأشهر والأكثر فجاجة لثورة الكاسيت التى ضربت مصر والعالم العربى فى منتصف السبعينيات. 
خلاصة هذه الثورة، على طريقة ماكلوهان، هى أن الكاسيت والفيديوكاسيت، على عكس الراديو والتليفزيون اللذين يأتيان إلى بيتك بالعالم مفلترًا ومراقبًا عبر السلطة الحاكمة والقائمين على ما يبث وما يمنع بثه، فإن الكاسيت والفيديوكاسيت يمكنانك من استحضار العالم الذى تريده أنت إلى بيتك.
فى مجال الغناء مثلًا، من المعروف أن لجنة الغناء والمسئولين فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصريين، كانوا يتحكمون فيمن يغنى ويصبح نجمًا أو من لا يغنى ولا يعرفه أحد، والحكايات لا تنتهى عن صراع مشاهير المطربين على المساحات المخصصة لأغانيهم، وعن المواهب الكبيرة التى ماتت فى المهد، لأنهم لم يروقوا للمسئولين أو لأن هؤلاء المسئولين كانوا يقتلون هذه المواهب عمدًا لصالح مطربين آخرين.
من ناحية المضمون أيضًا شكلت السلطة ورجالها نوع ومستوى ما يبث من أغانٍ، وفرضت ذوقًا واحدًا هو ذوق الطبقة الوسطى الحاكمة التى تتشكل بالأساس من الضباط والموظفين والمتعلمين، ولم يكن أمام الطبقات الشعبية من فلاحين وعمال وتجار، سوى تبنى الثقافة الغنائية الرسمية التى يجسدها عبدالوهاب وعبدالحليم وأم كلثوم وفرقة رضا، أو انتظار فرح شعبى أو مناسبة شعبية للاستماع إلى أغانيهم محلية الصنع.
مع صعود طبقة «الانفتاح الاقتصادى» التى تمثلت فى الحرفيين وتجار السلع المستوردة والعمالة المسافرة للخليج وظهور الكاسيت، ثم الفيديوكاسيت، أصبح لهذه الطبقة أغانيها ومطربوها وأفلامها، وانطلقت موجة عاتية من الأغانى «الشعبية» التى تعتمد على سوق الكاسيت فقط.
الطبقة الوسطى التى انسحبت وانهارت تحت وطأة الغلاء المتصاعد كفت عن التردد على دور العرض السينمائية، فيما شكلت «طبقة الانفتاح» جمهور السينما الجديد، وهو ما أدى إلى تغيير وجه السينما أيضا فحلت نادية الجندى محل فاتن حمامة وعادل إمام محل فؤاد المهندس، ثم ظهرت موجة أفلام «المقاولات» التى كانت تعتمد على توزيع الفيديو فقط، لدرجة أن كثيرًا من هذه الأفلام لم تكن تصل إلى دور العرض السينمائية من الأساس.
كان عدوية هو صوت الطبقات الشعبية التى عادت لتثأر لنفسها من التجاهل والقمع اللذين تعرضت لهما طويلًا، أغانيه لا تدور عن الحبيب المظلوم الذى تخلت عنه حبيبته، ولكن عن الحبيب الواثق من قدراته الفخور بمهاراته «إحنا الباب يخبط نعرف بره مين...دا إحنا معلمين»، وعن نساء وأطفال الأحياء الشعبية الفقيرة كما فى «عيلة تايهة يا ولاد الحلال»، أو «سلامتها أم حسن»، أو مشاكل اجتماعية مثل الغلاء والزحام الذى كان أول وآخر من غنى له فى «زحمة يا دنيا زحمة».
لم ينتبه المثقفون وقتها لما تحمله هذه الأغانى والأفلام الشعبية من مضامين رافضة ومتمردة، وكانوا يهاجمونه فى العلن حتى لو كانوا يستمتعون بأغانيه سرًا، ربما باستثناء اسم واحد كبير لم يخجل من الإعلان عن حبه وتقديره لأغانى عدوية، وهو نجيب محفوظ.