رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

إبراهيم بدران.. الصرح الأخلاقي والمهني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«كنت دائمًا أوصى الطلبة فى الكلية بالاهتمام بالمرضى الفقراء، وأقول لهم، هم إخوتكم وسيقابلونكم على الصراط المستقيم يوم القيامة». 
هذه ليست مجرد جمل قالها فى حوار الراحل الدكتور إبراهيم بدران الذى فقدته مصر منذ أيام، إنها جوهر ما آمن به وأخلص له «الحكيم» بلغة عصره، وليست مجرد جمل سوف نعيد ذكرها لاحقا فى حوارات أجريت معه، إنها صلب اختياره منذ كان فى أول الطريق حتى رحيله.
الطبيب الجراح إبراهيم بدران الذى اختار مهنة الطب، وتعامل معها كرسالة إنسانية مجسدًا من خلالها قيم الحق والخير والجمال، ودافع عن حق الفقراء فى الصحة والعلاج، مدينًا ومستنكرًا ومقاومًا للتجارة فى أمراض البشر، وهب علمه وعمره من أجل حلمه بأن يرى فى شوارع بلاده شعبًا نضرًا لا تكسو وجهه صفرة المرض، ولا أمارات الألم والخوف والمهانة من عدم القدرة على امتلاك ثمن العلاج.
اختار وتمنى وظل حتى آخر يوم فى حياته يقول: «تمنيت أن أقضى حياتى فى خدمة الناس»، ولم يحد عن مبدئه، ولا عن أمنيته وظل خادمًا للناس، وخادمًا لجنودنا فى حرب فلسطين عام ١٩٤٨، وطبيبًا معالجًا لجراح المقاتلين المصابين برصاص العدو الصهيونى، وهو الأستاذ فى كلية الطب، وعميد لها، ونائب لرئيس الجامعة، ووزير للصحة ورئيس للمجمع العلمى، وهو بحق الصادق عندما قال : «أنا فى كل مكان أرأسه أكون خادمًا فيه».
وعندما تولى وزارة الصحة، وفيها كان صاحب قرار، أنشأ للفقراء فى عامين (٧٦ ـ ٧٨) ١٣٢ وحدة صحية لعلاج فقراء الفلاحين من أمراضهم، ومن موقعه كمسئول عن صحة الشعب المصرى قال: «عندما أسير فى الشارع وأرى مواطنًا وجهه أصفر، وأنا وزير للصحة أشعر أننى مسئول، وأننى سوف أحاسب أمام الله عليه»، وقال أيضًا: «عندما يموت مريض وهذا يحدث أشعر أننى أموت معه»، وكان وقتها وزيرًا للصحة فأوقف العمل فى بناء المستشفى الخاص به، وكان تحت الإنشاء فى ذلك الوقت، ولم يستكمل بناءه إلا بعد خروجه من الوزارة، وهو فى الوزارة وحتى آخر أيام حياته طالب بقوة بأن تغطى مظلة التأمين الصحى كل المصريين، وأن السبيل لتمتع المصريين بالصحة كأولوية هو الارتقاء بمستوى الوحدات الصحية والمستشفيات والعاملين بها.
وظل مهمومًا بهذا الوطن وقال فى صدق: «سأظل مهمومًا بمصر حتى أموت، وأتمنى أن أظل فى خدمتها حتى آخر لحظة فى حياتى، أريد أن أقابل ربنا وأنا خادم لمصر»، ولم يترك الجراح المشرط من يده يستأصل به الأدران التى تهدد الجسد بالدمار، فى يده المشرط وفى قلبه عشق لهذا البلد، فوقف على أيدى البنائين والمرممين للمجمع العلمى، ليس بصفته رئيسًا له بل بصفته عاشقًا لتراب هذا البلد، ولأنه العاشق الذى أصابه الدمار الذى أصاب المجمع العلمى فقد بات ليلته يبكى، وهو يشاهد على التليفزيون فى عام ٢٠١٢ ألسنة اللهب كالوحوش تفترس الصرح العلمى، وتأكل روح هذا البلد المسكون بتاريخ عريق، وتلتهم أثرًا عمره أكبر من عمر دول موجودة على سطح الكرة الأرضية.
رحل حاملًا خوفه على مصر وعلى شبابها، راصدًا الانهيار الذى أصاب قيم المجتمع.. وعن ظواهر هذا الانهيار قال: «ألاحظ الانفلات اللفظى وانتشار السُباب والشتائم، وأرى الشباب متخبطًا، وأتمنى أن يخرجوا من هذه الحالة، وأن يعبروا عن أنفسهم بشكل لائق، ويؤسفنى أن أقول إن هناك شبابًا خرجت عن التربية».
وكانت معركة مواجهة نزيف الهجرة بين العلماء وأساتذة الجامعات فى مصر فى أعقاب نكسة ٦٧، من معاركه الكبرى، جند لها الأساتذة وأعضاء المجلس الأعلى للجامعات، وجند نفسه للحوار الجاد مع الراغبين فى الهجرة، مطالبًا الجميع باتخاذ موقف جاد لمواجهة هذه الظاهرة، حاملًا رسالة عبر عنها قائلًا «إننا هكذا نخسر المستقبل».
رحل العالم الجليل الطبيب الإنسان «إبراهيم بدران» ومعه خوفه على مصر، لذا فسيرته تستحق الكتابة، والعرض فى وسائل الإعلام، والأعمال الدرامية، بل التدريس فى المدارس، لعلنا نستعيد قيمًا تنقذنا من مستنقع الرداءة والانحطاط الأخلاقى.