الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جريمة التدليس التاريخي إيثارًا للسلامة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بينما تتصاعد الأصوات والصيحات الفارغة التى تدور عكس عجلة التاريخ، تلك الأصوات التى تتحدث عن «دار الخلافة الإسلامية العثمانية» هؤلاء الذين انطمست عقولهم لا نقصدهم بالكلام، فإن من يعنينا هنا هم الشباب، ومن يقف على عتبات الانخداع بهذا الخطاب. ولهذا لا بد من الاستعانة بالتاريخ وبما قدمه الباحثون والمؤرخون لكشف وإظهار الحقائق فى مواجهة تزييف التاريخ. ومن الرائع أن نعود دائما إلى رفوف مكتباتنا فنلتقط كتبًا تجيب عن الأسئلة، وبالعودة لكتاب قديم صادر عن مكتبة مدبولى فى يوليو ١٩٧٤ بعنوان «التاريخ الاجتماعى للقاهرة العثمانية» لأندريه ريمون ترجمة «زهير الشايب» سنجد إضاءة لجوانب مسكوت عنها فى تاريخنا. 
يصف المترجم فى مقدمته الطريق الصعب والجاد الذى سلكه المؤلف فيقول: «ولقد اختار المؤلف الطريق الصعب لإنجاز دراسته تلك، فرجع إلى المصادر الرئيسية لتاريخ مصر العثمانية فى مؤلفات المقريزى وأحمد شلبى والقينالى والدمرداش والجبرتى وعلى مبارك، وقد بذل فى سبيل ذلك مجهودات مضنية».
ويؤكد المترجم على ضرورة فقء خراج التدليس التاريخى فيقول: «هذا مساهمة جادة فى نفض الغبار عن فترة من أهم فترات تاريخنا المعاصر، فترة تتجاوز ثلاثة قرون وتلقى بثقلها على حاضرنا كله لا بد أن نجلوها حتى نفهم الكثير مما يحدث ومما يدور حولنا، لكن للأسف لا تلقى منا إلا كل الإهمال والصد ونتركها إيثارا للسلامة».
وسنتوقف هنا لضيق المساحة عند الأوضاع الصحية تحت الاحتلال العثمانى، وعنها يقول أندريه ريمون: «أما المشاكل الصحية فيبدو أنها قلما كانت تشغل بال السلطات العثمانية، لذا لم تكن الصحة العامة فى المدينة فى حالة مرضية، وإذا كان قد وجد فى زمن المماليك على نحو ما نظام المجارى التى تتجمع لتصب فى الخليج فإن هذه المجارى كانت قد انسدت كلية على وجه التقريب فى القرنين السابع عشر والثامن عشر... أما الخليج الذى كان يستخدم كترعة تعبّ منها المياه أثناء فيضان النيل، فكان يصبح بقية العام مجرد مستنقع شبه جاف تفوح منه رائحة كريهة وتتجمع فيه كل قاذورات المدينة... وكانت البرك ذات المياه الراكدة والتى تجلب الباعوض تمتلئ بالذباب فى فصل الصيف كمصدر آخر للأوبئة».
وكما ذكر المؤرخون عن الأوضاع الصحية فى القاهرة فى ذلك الوقت أن القمامة كانت تتراكم وترتفع حتى تطمر البيوت، أو على الأقل الأدوار السفلى منها. تحت هذه الظروف عاشت مصر محكومة بالولاة الذين كان يعينهم من يسمونه خليفة المسلمين فى إسطنبول. وقد كانت مصر مجرد بقرة حلوب يعتصرون دماءها وليس لبنها فحسب، لذا كانت الأوضاع الصحية التى عاشتها البلاد فى هذه الفترة تمثل كارثة، وعنها يقول المؤلف: «وإذا أخذنا فى الاعتبار كل هذه الظروف فلن يدهشنا أن نعرف أن القاهرة قد تعرضت للعديد من الأوبئة المهلكة التى حدثت فى الغالب بعد فترات المجاعات والغلاء».. وبالضرورة، والظروف هكذا، أن مصر تعرضت لموجات متلاحقة من الأوبئة كالطاعون والكوليرا مع الإهمال الذى حوّل ما كان قائما من مؤسسات علاجية إلى خرائب.
هذه مجرد زاوية تتعلق بمظهر واحد من مظاهر الحياة وهو الصحة العامة، وما أصابها من انهيار قد أصاب أيضا التعليم والحرف والزراعة.إنه الانهيار الذى أصاب بلدا كان أفدح ما أصابه إصابة عقله ووعى شعبه الذى طمروه بالجهل باسم الخلافة الإسلامية.
إنه لا بد من إعادة كتابة التاريخ وقراءته.. لا بد من المواجهة بشجاعة وتسمية ما حدث بالاسم الحقيقى له، فقد كان استعمارا عثمانيا وليس «فتحا» كما يتبجح البعض بتسميته، فالخليفة العثمانى كان مستعمرا والذين يسلمون ويروجون لعكس ذلك هم من يغذون حلم المهووس أردوغان بعودة الخلافة العثمانية، واستعادة سطوة أجداده الغزاة، مستعينا بالتدليس فى قراءة التاريخ.