الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكاية الدين في مصر (2-4)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عرفنا كيف تعددت الأديان وكيف تطورت ومعنى الإيمان والكفر. نتحدث الآن عن البعث.
لقد صار للبشرية دين أساسه إله واحد خالق كل شىء. وهو أساس كان موجودا في كل الديانات الأرضية السابقة مع فارق أن البشر من قبل لم يكونوا مستعدين لفصل الإله عن الموجودات الطبيعية لعدم قدرتهم العامة على التجريد وفى الوقت نفسه كان الإنسان القديم يدرك شيئا فشيئا أن الإنسان لا يختفى بعد الموت فهو يعود إليه في أحلامه، هناك إذن عالم آخر يذهب إليه الناس بعد الموت.
وفى أرض مثل مصر اكتشف الإنسان أيضا أن جثث الموتى لا تختفى بسرعة في التربة أو تتحلل فتساءل هل تبقى على هذا النحو إلا لتقوم مرة أخرى وتدب فيها الروح؟ هناك إذن عالم آخر تؤيده الشواهد الروحية، كالأحلام والمادية عدم تحلل الجثة بسرعة في التربة المصرية القديمة طبعا.
فبدأ الاعتقاد في البعث.. فالإنسان الذي يموت يذهب إلى حيث جاء من قبل ويقف بين يدى الإله الذي خلقه ليحاسبه على مافعل. وما دام هناك حساب في العالم الآخر فلابد من قواعد أخلاقية في العالم الأرضى تسير جنبًا إلى جنب مع القواعد الاجتماعية والنظم الاقتصادية والسياسية وهكذا صارت الأخلاق جزءًا من بنية الحياة على الأرض وقام في الإنسان ما نسميه الضمير وهو أعظم ما أنجزه الفراعنة روحيا، وكذلك الحضارة البابلية.
وإذا تتبعنا الديانات القديمة كلها سنجد إلهًا أكبر خالق كل الآلهة والناس وفى مصر مثلا فإن «خنوم» إله الفخار هو الذي صنع الناس من طين وقش ثم نفخ فيهم من روحه لتدب فيهم الحياة، كما أن الإله بتاح هو الذي علم الإنسان والحيوان والآلهة الأصغر علمها الكلام والأسماء كلها! وكان له أن يفكر بما يشاء ويفعل ما يريد ولا نهاية لمشيئته أو قدرته. وإذا قرأت الترانيم الفرعونية والتعاليم الإلهية والقصص حول الآلهة القديمة ستعرف أن كثيرا جدا مما جاءت به الديانات السماوية قد فطن له الإنسان المصرى من قبل وهناك عشرات الكتب توضح كيف انتقل ذلك إلى الديانات السماوية بدءًا من الموسوية إلى المسيحية حتى الإسلام! والأمر نفسه لو انتقلت إلى الحضارات البابلية أو السومرية أو الآشورية. وهكذا صارت منطقة الشرق الأدنى مهيأة أكثر من غيرها لاستقبال الرسالات السماوية. لقد كانت فيها قدرة العقل على التجريد أكبر من غيرها ولقد سبقت في الحضارة التي احتاجت إلى قواعد أخلاقية بقدر احتياجها إلى قواعد اجتماعية. نحن هنا فقط نؤكد حقيقة أن الدين حاجة إنسانية قديمة قدم الإنسان على الأرض، وكما قلت فإنه كما تشكلت الأمم مترقية من العشيرة إلى القبيلة إلى القرية والمدينة والدولة ترقى الدين من تعدد الآلهة إلى إله واحد ولم يحدث ذلك للإنسان من كتب قرأها ولا نقوش سابقة على وجوده إنما هو احتياج طبيعى لكائن حائر في كون كبير. لذلك لا يمكن أبدا إنكار الدين مهما ترقى الإنسان وتطور فهناك دائما الحاجة إلى إله يلوذ به ويطمئنه ويحميه وهكذا كان مصير كل الفلسفات الإلحادية الفشل أو النسيان لكن يظل دائما أن الدين لم يكن هو أساس المجتمعات بل سار وترقى معها. أضاف الدين للأخلاق قوة وصار دورها سابقا على الجريمة أي صارت قوة الدين في المنع وليس الردع لأن النظم العقابية كانت موجودة ولكن كان ولا يزال ممكنا الهروب منها. من الله فقط لن يهرب أحد. ولأن قوة الدين في الأخلاق والمنع وليس الردع لا تجد تفصيلًا في الأديان لكل الجرائم ولا تفصيلًا لكل أنواع العقاب إلا فيما ندر فكل الأديان تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى لكن لا تقول ماذا نفعل في كل جريمة لأن العقاب موجود قبل الأديان. وحين أقرت الأديان بعضه أقرته لأنه موجود ويتناسب مع طبيعة المجتمع الذي نزلت فيه الرسالات ومن ثم فشكل العقاب يقبل التغير مع تغير المجتمع المهم ألا يلغى العقاب. النظم العقابية كانت سابقة على الأديان وجاءت من أثر التطور الاجتماعى وتطورت بتطور المجتمعات وهكذا فاستمرار التطور فيها أمر يتسق مع العقل والأديان. ومن ثم فالنظم العقابية الموجودة في القرآن الكريم يمكن تطويرها واستبدالها بما يتفق مع العصر الحديث. فلقد كانت بنت مجتمعاتها. ولم يكن ممكنا للقرآن الكريم أن يأمر من نزل فيهم بالإعدام بالكهرباء مثلا باعتباره أخف أشكال الإعدام لأن أحدا لا يعرف الكهرباء. كما أن الجلد والرجم عقوبتان سابقتان على الإسلام مقصود بهما الفضيحة مع العقاب والفضيحة الآن لا تحتاج تجمهرا يرى فالميديا ووسائل الإعلام كافيتان ومن ثم يمكن تغيير الجلد والرجم بعقوبات القانون المدنى دون خروج على الإسلام فالمهم العقاب. هذه إشارة عابرة لمعنى الحدود القديمة التي كانت بنت مجتمعاتها وأعود إلى موضوعى الأصلى وهو الدين.
الإسهام الرئيسى للدين هو تعميق النظرة الأخلاقية في الإنسان وترسيخ الضمير خوفا من حساب الآخرة ومادام الأمر كذلك فهذا الإله يستحق التقرب إليه بالصلاة والصوم والفدية والحج إلى أماكن عبادته وكل هذه الطقوس كانت موجودة قبل الرسالات السماوية فقط اختلفت طرق أدائها.
طيب.. إذا كان الأمر كذلك الدين حاجة بشرية دارت مع دوران الإنسان على الأرض وترقت كما ترقى ولا يمكن الفصل بينها وبينه فلماذا يصبح الدين مشكلة ولماذا لا يصلح أساسا للهوية كما يقول الخارجون عليه الآن وعبر التاريخ متصورين أنهم رجاله الحقيقيون في أي مكان؟. لذلك تاريخ سنوجزه في العالم ثم مصر.