الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

حكاية ليست للقراءة لكنها للحياة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من حوار متصل
- قال: يا سيدتى أنت كاتبة متوحشة.
- قالت: يا سيدى أنا أكتب كى ترانى.
إهداء سيشغل يوما صفحة بيضاء
إلى السر الذي يسكننى والبراح الذي أسكنه.
«تتجمع النساء حول الشجرة، يتأملن في إعجاب الأشكال الطينية التي يصنعها «يحيى»، مركب، جمل، عريس، عروس.. يجمع الأشياء فوق شباك «المندرة»، وأحيانا يهادى بها «صفية» التي كانت زميلته في «الكُتَّاب»، وككل الحكايات القديمة كانت هي أجمل بنت وكان هو أجمل ولد، ومن فم الأولاد الذين يقسمون العالم على هواهم دون حسابات خرجت عبارة «يحيى لصفية وصفية ليحيى»، وبعد انتهاء الكُتَّاب مُنعت صفية من الخروج من البيت إلا للضرورة القصوى، التي تسمح بأن يراها العريس المناسب، أو تتحدث أخت لأخيها عن جمالها وأدبها وكمالها، الأصيلة بنت الأصول، وذهب «يحيى» إلى المدرسة الابتدائية في «الزرقا»، ثم المدرسة الثانوية بالمنصورة، إلا أن الحب كنبات اللبلاب تعرف أين جذوره، ولكن لا يمكنك التنبؤ إلى أي مدى سيصل.
نمت العلاقة بين صفية ويحيى بتلقائية وبراءة، يرعاها ويحنو عليها ويدافع عنها، وهى تعطيه من مصروفها وتقاسمه ما تشتريه، وفى ذهن كل منهما «يحيى لصفية وصفية ليحيى»، وبمرور الوقت اكتشفا أن ما بينهما يختلف عما بين يحيى وحُسنة، تنبهت صفية إلى الأمر وإلى ما يعتريها من شوق ليحيى، وبدأت تنتبه إلى تفاصيله وتحفظها، وأصبحت صفية هي النموذج الذي يجسد كل تماثيل ومنحوتات يحيى، وتزايد الضيق الذي يعتريه إذا غابت، والأحلام التي يرى فيها صفية وتنفس عن ضغطه، وأمسى لا ينام إلا وصفية في عينيه، في شفتيه.. عذَّبه كثيرا شعوره بإثم أحلامه، وزاد من شعوره إحساس قديم بالذنب تبعثه ألعابه الطينية التي هدده الشيخ «عبدالجواد» وهو تحت يديه في الكُتَّاب «كل روح ستأتى يوم القيامة وتقول لك أحيينى ولن تستطيع».
لم يكن يحيى وحده الذي يتألم، صفية أيضا كانت تعانى، ولكن قدرة البنات على الإدراك أكثر عمقا، حتى كان يوم جاءت فيه صفية وهى تحمل صفيحة الماء لتزود به بيت عمتها، كان يحيى وحده بالمنزل وكانت صفية تتمنى ذلك، نهض ليلقاها ويساعدها في إنزال الصفيحة، سقطت مياه الصفيحة عليهما، ابتل جلبابها القطنى، وجسم تفاصيل جسدها فكانت تمثالا دقيق النحت كما تمنى دائما أن يصنع، لكن أحاديث شريفة يرويها الشيوخ تجعله يكتفى بمشاهدة التماثيل في متحف المنصورة، دون جرأة على الاقتراب من أو لمس الصلصال.
وإذا بهما جسدان ملتصقان، أعضاؤهما تصرخ بالرغبة في الالتحام والعودة إلى الأصل خلية واحدة انقسمت وحان أوان عودتها واكتمالها، تقلبا على تراب الحجرة الداخلية، لم يشعرا بالطين الذي لطخ ملابسهما، كان كل منهما يعرف جسد الآخر، كأنما تعانقا آلاف المرات، انتقلا إلى الغرفة الأخرى حيث خلعا ملابسهما، ولم ينتظرا فكل عضو من أعضائهما يعرف طريقه للآخر تماما.
تسربت كل مخاوف صفية وبقت مستكينة على ذراع يحيى، وعندما ارتوت شعرت بالعطش، قام يحيى ليحضر لها قلة الماء، وهو واقف يشرب تأملته صفية بعينيها، تكوينه الدقيق، شعره المتهدل وقد التصق على جبهته، والشعيرات القليلة النابتة في وسط صدره، السُرة التي يزداد تحتها كثافة الشعر، الوحمة الحمراء في فخذه اليسرى، شعرت صفية أنها ربما تكون المرة الأولى والأخيرة التي يُتاح لها أن تتأمل جسد رجل تحبه، وشعرت بحنين طاغ ورغبة في البكاء، أن تضمه مرة ثانية إلى صدرها، تضمه كوليد ستحمل فيه تسعة أشهر وعندما يصبح بين يديها يتبخر، أخذت تبكى، ويهتز جسدها في تشنجات متتابعة، لم يفهم لها يحيى سببا، ولما هدأت ملأ يحيى فمه بالماء وقرب فمه من فمها، وعندما التحمت الشفاه سقاها الماء مختلطا بريقه، وظل يحيى يهدهدها.. اعتقد أنها خائفة من عاقبة ما حدث بينهما، فأخذ يقبل رأسها، ويقسم أنه لن يتخلى عنها أبدا، وسيفعل المستحيل لكى يرضى أباها ويتزوجا، ومن أجل عينيها سيترك التماثيل، فهى تمثاله الوحيد وكل عالمه.
لكن في المساء كانت قراءة الفاتحة بين خالها والأستاذ «رزق» مفتش الزراعة الذي يشتهر بعينه الفارغة وشربه للحشيش، وبموافقة صفية التي استدعاها أبوها وأخبرها أن المهندس رزق تقدم يطلب يديها والليلة خطبتها، وعندما همت بالاعتراض صرخ فيها اخرسى يا فاجرة.
ولطمها على وجهها، فانسل «الحلق» من أذنها، وتمزقت حلمة أذنها اليسرى، وللمرة الثانية في هذه الليلة كان على صفية أن ترى دماءها، سقطت ثلاث قطرات من أذنها على تراب الحجرة، ثلاث قطرات حارة، ساخنة، لزجة، قانية، قادرة على استحضار الحياة، لتعود «حواء» مانحة الحياة التي تجدد نفسها كل شهر.. وتُكمل «إيزيس» رحلتها بحثا عن الأجزاء الضائعة من جسد حبيبها الممزق، تنقب عنها في كل مكان حتى تتمكن من جمعها كلها، ثبتتها معا برباط، تستخدم تعاويذها لكى تعيده إلى الحياة.. وتتخلق «عشتار»، تفر من أعماق العالم السفلى لتنقذ العالم من الجدب وشبح القحط فتهطل الأمطار، وتجرى الأنهار، وتثمر النباتات، وتكثر الغلال، وتزداد المحاصيل، ويرفل العالم بالرفاء والغنى.
في تلك اللحظة تشبعت صفية بهذه القوى القادرة على دحْر الموت وتحقيق الخلاص.. وما كان لى كملك للموت أن أتدخل أو أمنع شيئا ففى مثل تلك اللحظات يصبح الإخصاب والموت وجهين لعملة واحدة.. ومن الدماء وروح الإخصاب، تكونت صفية أخرى، صفية جديدة لا أدرى موقعها منى، ولا تعتقدوا أن الأمر كان يسيرا عليَّ فلطالما تساءلت ماذا أفعل عندما يأتينى أمر الرب؟ أي الصفيتين سوف أصطحب وأيهما التي تنهمر دموعها وهى تقول لأبيها:
مش عايزه أتجوز.
ليه؟!
يحيى؟!
اخترقتها عيناه الثاقبتان، النافذتان:
هتتجوزى رزق أو موتك على إيدى.
ووضع حذاءه على رقبتها:
حاضر. حدد الميعاد المناسب.
لو سليمة هيبان، لو كنت معطوبة..
وفمها ملوث بالدم رددت بآلية:
شرفك متصان يا با.
هوت بها كفه الكبيرة إلى الواقع، لم ينقطع فرع اللبلاب، فقط التوى قليلا، لكن العينين الحادتين والصوت الغريب الذي لم تسمعه من أبيها من قبل أصابا روحها بالعطب، وأيقظها على حقيقة لم تكن تعرفها في نفسها، ووصمها بعهر ستظل دون وعى منها تؤكده في تصرفات لا تعرف قرارها، تمارسه مع زوجها فكانت تراقب نفسها وهى معه، وتصر على إنهاكه منذ ليلتهما الأولى.. بعد أن استوعبت أمها سرها، وبهدوء ودربة لوثت ما بين فخديها بدماء الحمامة التي أكلها «رزق» ولم يكمل نصف الثانية، كى يتيح لقرش الحشيش وربع «البراندى» أن ينقله إلى الجنة. التلامس المباغت كانت تخطط له بحنكة ودربة، ليالى تشتعل فيها ولا تنطفئ، بينما زوجها إلى جوارها راض كل الرضى عن «اللبؤة» التي تزوجها، والتي يتباهى بقدرته على إشباعها في جلسات «الحشيش» على شاطئ النيل، وعندما تحاول واحدة من عشيقاته القديمات التعريض بها يحلف بجسدها ويصفها، وأصبحت صفية مشاعا على النواصى والمقاهى، تُراقب حلمتى ثدييها المخترقتين للسوتيان والجلباب والطرحة، ويعد الجالسون في الشارع حركات مؤخرتها.
صفية التي جاء أحدهم إليها في منتصف الليل، وخبط على بابها عاريا وبين يده عضوه مترنحا:
- أموت وألحس يا صفية.
فأغلقت الباب في وجهه، وأغلقت فمها وروحها وحواسها على صرختها، لكن صفية الأخرى، نحتها جانبا، وفتحت الباب لتجد الرجل ما زال متسمرا في مكانه، فسحبته من عضوه، أرقدته على المصطبة في الحوش الخارجى، وبركت فوقه وظلت تهتز عليه حتى قارب الفجر على الأذان، وبدأت غبشة الليل تختفى، والرجل تحتها فارق الوعى، وعندما نهضت من فوقه كان عضوه كعود ملوخية جففته شمس الظهيرة. أخرجته من رحمها، وألقت به وسط عيدان القش أمام الدار، وعندما مر أحدهم ورأى النائم على المصطبة، حاول إيقاظه، ولما فشل خبط كفا بكف وتمتم: «لا حول ولا قوة إلا بالله. الراجل مات».