الأربعاء 05 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

النعرة الكذابة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت بيروت، الخارجة لتوها من جحيم الحرب الأهلية، هى أول بلد عربى أزوره فى بداية التسعينيات ضمن وفد شكلته وزارة الشباب والرياضة للمشاركة فى بعض النشاطات الرياضية والثقافية هناك.
كانت آثار القنابل والصواريخ والرصاص، فوق كل مبنى فى المنطقة الجنوبية من بيروت، وبالتحديد حى الأوزاعى، على ما أذكر اسمه، الشيعى، الفقير. وخلال الرحلة التقيت عددًا من الشباب اللبنانيين واللبنانيات لا زلت أذكر ملامحهم وأتساءل أحيانًا عن مصائرهم بعد كل هذه السنوات.
لم ألتزم ببرنامج الرحلة، والتحرك ضمن معسكر الوفد المصرى، وكنت أتسلل يوميًا، وحدى، للتجول فى المدينة جنوبها وشمالها شرقها وغربها، حاملًا معى دفترًا صغيرًا، يحمل بعض أرقام هواتف مثقفين وصحفيين لبنانيين، وعلى مدار أسبوع أو عشرة أيام تقريبًا، لم أترك مكانًا فى بيروت لم أذهب إليه، ولم أترك مبنى صحيفة أو مقهى مثقفين أو شخصية فنية أو أدبية كبيرة لم ألتق بها أو أحاول الالتقاء بها، من فيروز وماجدة الرومى ومنصور رحبانى والناشر الأديب سهيل إدريس والصحفى غسان توينى حتى شعراء شارع الحمراء.
لا أعلم من أين كنت آتى بهذا النشاط والقدرة على زيارة العديد من الأماكن والقيام بالعديد من اللقاءات والحوارات خلال يوم واحد.
أتذكر هذا الشاب الذى كنته وأحسده على الحماس الذى كان ينعم به، هذا الحماس الذى تلاشى تمامًا فى مصر، ويعود أحيانًا عندما يسافر المرء إلى بلد يمتلئ بالحياة والنشاط المعدى كما يحدث لى مثلًا فى «كان» أو «برلين».
خلال زيارتى الأولى لبيروت، سجلت عشرات الساعات مع الفنانين والمثقفين اللبنانيين، بعضها لم أقم بتفريغه من شرائط الكاسيت إلى الآن، وبعض هذه اللقاءات أتذكرها كما لو كانت بالأمس القريب مثل زيارتى لبيت السيدة ماجدة الرومى وزوجها السابق أنطوان.
كانت مجلة «روز اليوسف» التى أعمل بها قد نشرت خبرًا «مضروبًا» نتيجة ترجمة خاطئة، مفاده أن ماجدة الرومى تحمل بشكل دائم مسدسًا فى حقيبة يدها، وعندما اتصلت ببيتها للحصول على موعد بلقاء فوجئت بأنها وزوجها غاضبان جدًا على المجلة ورافضان لإجراء حوار لها، ولكنهما رحبا بزيارتى لمنزلهما، ثم دعيانى على عشاء فاخر خارج المنزل، بل وقاما بالاتصال بكل من الموسيقار منصور رحبانى والراقص عبدالحليم كاراكالا ليحجزا لى زيارتين للمسرحيتين الاستعراضيتين الكبيرتين اللتين كان كل منهما يقدمها على مسرحه، وأتذكر أن مسرحية الرحبانية كانت مستوحاة من حياة «سقراط» ومسرحية كاراكالا مستوحاة من «ألف ليلة».
المهم أننى خلال اللقاء المطول مع ماجدة الرومى وزوجها حصلت على حوار غير مباشر، ونشرته فى مجلة غير «روزاليوسف» كما وعدتهما، وكانت بداية صداقة فرقت بينها المسافات والأيام.
من اللقاءات التى لا أنساها من زيارة بيروت لقائى بالشاعر الكبير سعيد عقل، والذى كانت مجلة «الوسط» التى تنشرها دار «الحياة» قد نشرت حوارًا على حلقات معه تحت عنوان جميل هو «سعيد عقل إن حكى»، وقد أثار العنوان إعجابنا، نحن «شلة» صحفيي «روزاليوسف»، وبالتحديد على ما أذكر إبراهيم عيسى وعمرو خفاجى وعبدالله كمال رحمه الله، والثلاثة كانوا من المتيمين بأساليب الصحافة اللبنانية خاصة فى «الحياة» و«الشرق الأوسط».
أتذكر جيدًا أيضًا لقائى بشاعرة ورسامة لبنانية اسمها باسمة كيال، لا أذكر كيف تعرفت عليها، ولكن أذكر أنها دعتنى لزيارة منزلها فى الجبل، وسط الخضرة والزهور، وقد ذهبت بصحبة الصديق اللبنانى الذى عرفنى عليها، وكانت أول مرة أصعد فيها إلى الجبل وأشاهد وأشم وأسمع روعته. أذكر أن السيدة باسمة كيال، اتصلت بى فى اليوم التالى فى معسكر الشباب المتواضع فى حى الأوزاعى، والتقيت بها فى شارع الحمراء، حيث أهدتنى بعضًا من رسوماتها، ثم اكتشفت أننى فقدت هذه الرسومات فى الطائرة عند وصولى إلى القاهرة، وعدت إلى المطار للسؤال عنها ولكن لم أجدها، والآن بعد أكثر من عشرين عامًا مازلت أشعر بالخجل لأننى فقدت هذه الرسومات، ولا أعلم هل باسمة لم تزل حية أم لا، وللأسف عندما أذهب أحيانا إلى بيروت أنسى السؤال عن هؤلاء الذين تعرفت عليهم خلال زيارتى الأولى، للمدينة المضروبة بالحرب، والتى كانت تحمل آثار بيروت القديمة، التى تلاشت أو كادت أن تتلاشى الآن.
وقعت فى حب بيروت، كما وقعت فى حب كل بلد عربى زرته بعد ذلك، وهو أمر اكتشفت أنه يحدث لنا معظم العرب، فكل من يأتى إلى مصر يتغزل فيها بشكل يدهشنا أحيانا، وقد تساءلت دائما إذا كان العرب يحبون بعضهم إلى هذه الدرجة، فلماذا لا يتوحدون، ولماذا تضربهم الشقاقات والنعرات الإقليمية والقبلية؟.
أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال وصلتنى ذات مساء فى العاصمة الأردنية عمان، خلال سهرة مع بعض الأصدقاء من الكتاب والمثقفين فى بيت أسرة سورية أردنية راقية ومؤمنة لأبعد حد بالوحدة العربية.
خلال هذه السهرة سكر أحد الحاضرين من السوريين، ويبدو أنه شعر بالحسد من كلام صاحبة البيت عن مصر والمصريين، فراح يهاجم مصر بضراوة شديدة، ولم ينقذه من يدى سوى أن صاحبة المنزل قامت بالواجب وأكثر معه.
بعد هذا الموقف بدأت أنتبه إلى هذا الحسد الشديد لدى بعض العرب، خاصة «المتعلمين» و«المثقفين» منهم، من مصر، لكننى بدأت أنتبه أيضا إلى النعرة الاستعلائية الفجة التى يعانى منها المصريون أيضًا، والتى تتسبب كثيرا فى استياء العرب من المصريين ومصر، وأحيانا يكون معهم الحق، فالشخص الذى يتحدث عن نفسه وماضيه طوال الوقت، خاصة إذا كان حاضره مزريًا، غالبًا ما يجلب لنفسه السخرية.
العرب يحبون بعضهم، ولكن الحائل الوحيد بينهم هو هذه النعرات الشعوبية الإقليمية الكذابة، التى لن نتقدم خطوة إلا إذا تخلصنا منها.