الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة ستار

عن الذين يأكلون النار والذين يأكلون السوشي!

عن الذين يأكلون النار
عن الذين يأكلون النار والذين يأكلون السوشى!
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


(1) 
أنا من شوية كنت نازل أشترى شوية حاجات من شارع قصر العينى، جنب قهوة شيك كده.. عدى شاب شكله فى أواخر العشرينيات ومعاه مراته. شابة أصغر منه شوية بس رفيعة أوى وشكلها مرضان، بتفتح وتقفل عينيها بالراحة زى ما تكون نايمة، وهى ماشية ولا وهيا واقفة.. شايلة عيل على كتفها عمال يطلع صوت مكتوم كده، وهى تطبطب عليه.. وماسك فى طرف جلابيتها بإيده الاتنين، واد صغير تانى مبربر ونايم وهو واقف هو كمان، ومعاهم بنت منكوشة ومصحصحة على الآخر، عندها بتاع سبع تمن سنين عمالة تضحك، وهى سارحه تجرى قدامهم...
الشاب وقف قصاد القهوة، وطلع من شنطة بلاستيك معاه سيخين حديد بتوع اللى بيلعبوا بالنار فى الموالد والأفراح، ولع فيهم وابتدى يحدفهم فى الهوا ويقول:
- «آكل نار».. والبت الصغيرة تقول وراه بصوت مسرسع «نار».
- «بس أأكل عيالى بالحلال».
والبنت تقول «حلال!».
ياخد بق من جركن جاز معاه وينفخ أو يتف النار ويقول «يا رب».
والبنت الصغيرة تقول وراه «يا رب»!
طلع القهوجى بسرعة من جوه القهوة وابتدى يزقه بعيد ويقوله «امشى ياض من هنا ياض»، وهو مكمل الشو بتاعه.
وأنا واقف مبحلق أكنى بتفرج على مسرح العبث أو مسرحية «تجريبية» مثلا.
كل ترابيزة قاعد عليها اتنين أو تلاته بكرش وشنب أد كده، راكنين عربياتهم قدامهم بالظبط، مرسيدس، مازدا، بى إم دبليو، حاجات كده.. كل ترابيزة عليها علب مارلبورو وولاعات.. كبايات زبادى بالتوت.. مانجة بالفراولة.. شيشة تفاح فاخر.. شيشة خوخ دوبل.. حاجات كده...
الواد، النار عمالة تدلق على صدره والشابة اللى معاه تخبط عليها وتطفيها بإيد واحدة من غير ما تبص عليه حتى، بحركة أوتوماتيك كده، وهى شايلة العيل بالإيد التانية والقهوجى عمال يزقهم ويجرهم كلهم بعيد عن مدخل القهوة، والبت المنكوشة تجرى وتفلفص منه، والناس عمالة تضحك.
جنان رسمى...
وقفت لحظة كده، والله مش مصدق اللى بيحصل، وبعدين مديت وراه عشان ألحقه، وطلعت كل اللى فى جيبى حتى طلع معاهم مفاتيحى، وقلت له والله ده كل اللى معايا.. سحبنى لقدام شوية بعيد عن عياله، ومسكنى من كتفى جامد، فضل دايس جامد جدا لحد ما كتفى وجعنى والله وقعد يعيط من غير صوت.
مقالش ولا كلمة...
استنيته لحد ما خلص عياط ومشى.. أنا كمان مشيت.
بس والله العظيم تلاتة.. أنا لحد دلوقتى لسه سامعه فى ودنى، وهو بينادى «آكل نار، بس أأكل عيالى بالحلال يا رب». 
والبت المنكوشة بتزعق وراه.
«يا رب»!
- القاهرة، نص الليل، وسط البلد - ٢٠١٥.
هذه الحكاية على عهدة الراوى خالد ناجى، الذى كتبها على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعى فيس بوك، ليخبرنا أن هناك من يعيشون على أرض هذا الوطن، وهم لا يكتوون بالنار فقط، بل يأكلونها ويشربونها، فى سبيل واحد فقط، أن يجدوا لقمة حلال لأولادهم. 
(٢) 
أنهيت زيارتى سريعًا لمقر نقابة الصحفيين، لإنهاء بعض الأوراق الخاصة، ثم وجدت قدمى تجذبانى تجاه «كشرى أبو طارق»، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحًا، لم أتردد كثيرًا، ووجدت نفسى جالسًا، فى مدخل المحل، أنادى على الشاب، وأطلب طبقا صغيرا من «الكشرى»، سألنى هل أريد طبقا بسبعة جنيهات أم بعشرة أم بخمسة عشر جنيها؟ نظرت حولى فوجدت أغلب الزبائن، يتناولون وجبتهم فى طبق صغير، طلبت من العامل أن يحضر لى نفس الطبق، طلب منى أن أدفع حساب الطبق أولًا حسب قانون المحل، قبل أن ينصرف قدم ثلاثة من الشباب ليقتسموا معى الطاولة، كانت تبدوا عليهم ملامح الشقاء، ملابسهم وهيئتهم تظهران أنهم ينتمون لطبقة المعمار، طلبوا نفس الطبق صاحب الجنيهات السبع، أحضر العامل الوجبات الأربعة، وبمجرد وضعها أمام الشباب، أخرج كل منهم رغيفين من الخبز، وبدأوا فى صنع ساندويتشات من «الكشرى»، لم يستوقفنى المشهد، لأنها كانت وجبتنا المفضلة فى الإفطار عندما كنا صغارا، لاحظ أحدهم أننى أتناول طبق «الكشرى» بدون رغيف من الخبز، فقام بوضع رغيف أمامى، وابتسم وقال لى: «عشان تشبع ويقعد فى بطنك»، ابتسمت له وشكرته، وبدأت فى صنع ساندويتش «الكشرى»، ربما تكون هذه الوجبة هى إفطارى، ولكنها ربما تشكل لهذا الشاب وأصدقائه وملايين غيره، وجبتى الغداء والإفطار معًا، وربما تمتد لتصبح العشاء، إذا لم يتمكن من الحصول على عمل فى هذا اليوم، حديثهم لم يقترب من السياسة نهائيًا، فكل ما يشغلهم ويسيطر على تفكيرهم هو أكل العيش، الذى يقضون عمرهم فى البحث عنه، وربما يموتون دون أن يستطيعوا الحصول على «طبق الكشرى أبو ١٥ جنيها»!
(٣) 
كعادتها مبانى وشوارع وسط المدينة لم يتغير فيها شيء، ربما يكون الناس أكثر كآبة وحزنًا من ذى قبل، نفس الأنماط تسير فى شوارعها العتيقة، موظفون وسياس وشباب وبنات هاربات من المدرسة، وأصحاب المصالح، والفقراء الذين يقفزون بين السيارات، بعضهم مستعد للتضحية بروحه مقابل «جنيه فضة»، يلقى له من سائق ملاكى يكون حريصا على عدم ملامسة يده ليد السائل، خوفًا من الميكروبات، لم تعد رائحة الشوارع كما كانت قبل خمسة عشر عامًا، كان المثقفون يسيطرون على خريطتها بالكامل، تقابل يوميًا شعراء جددا ومؤلفين شبابا، وصحفيين، ومخرجين يبحثون عن فرصة، وأصواتا جميلة فى عرض منتج يستمع إليها. آلة الزمن تدور بسرعة شديدة، الوجوه تبدلت، أصبح متعاطو الترامادول ومدخنو الفودو يسيطرون على المقاهى، أطفال فى الثالثة عشرة من الصبيان والبنات يجلسون على المقهى وهم يدخنون الشيشة بمنتهى السعادة، تسمر جسدى أمام باب محل شهير لبيع الخمور، بعد أن تابعت مجموعة من الفتيات المحجبات اللاتى لم يتجاوز عمرهن السادسة عشرة، وهن يخرجن من باب المحل وحقائب أيديهن مكدسة بزجاجات البيرة والخمر، علامات الاندهاش وضحت على وجهى، فبادرنى أحد سياس الشارع الذى لاحظ اندهاشى: «مالك يا أستاذ، دول جايين يخدوا الاصطباحة»، تابعتهن بعينى، وجدتهن يتجهن ناحية أحد المقاهى الشهيرة الموجودة بين ممر قديم بوسط المدينة، أين الشرطة من كل ما يحدث بوسط العاصمة؟ كيف يبيع محل للخمور بضاعته لزبائن فى مثل هذه الأعمار؟ كيف يسمح للمقاهى أن تقدم لزبائنها الشيشة وهم لا يزالون فى مرحلة الطفولة؟ وكيف تسمح لهم بتناول الخمور والمخدرات وهم جالسون على هذه المقاهى دون أن يخافوا من أى شيء؟ هل تفرغت الداخلية لمحاربة الإرهاب، بينما تترك كل هذا الفساد ينمو دون أن تفكر فى محاربته والقضاء عليه؟ المدمن لا يقل خطورة على الإرهاب، كلاهما لا يتوقف عن القتل تحقيقًا لرغبة بداخله، أفيقوا يرحمكم الله، فالإهمال لن يدمر حاضرنا فقط، بل سيطول المستقبل أيضًا. 
(٤) 
محمود سعد ينتفض محاولًا تذكر أيام مجده وسطوته، يجلس أمام أنغام كملك استعاد عرشه، بعد سنوات من الغياب، يستمع ويضحك ويحزن، ولمعة عينيه لم تنطفئ طوال فترة حواره مع أنغام، هى أيضًا، تشعر بالأمان والراحة فى الحديث وهى جالسة أمام محاور تعلم جيدًا أنه يحترمها ويعشق ما تقدمه، غنت كعادتها، أمى كانت تجلس إلى جوارى وتهز رأسها يمينًا ويسارًا مع صوتها، دمعت عيناها وهى تستمع لصوتها يشدو بـ«حلى ضفيرك يا أصيلة».. تذكرت معها أيام الطفولة، شعرت بفخر أننى أنتمى لجيل تربى على موسيقى عمار الشريعى، وكلمات سيد حجاب، وأصوات بقيمة أنغام ومنير وعلى الحجار ومحمد الحلو، ربما هذا ما يجعلنا متميزين عن باقى الأجيال، وفى نفس الوقت شعرت بشفقة على جيل لم يعد يعرف عن الأغنية سوى «مافيش صاحب يتصاحب»! 
(٥) 
السيارة تتوقف أمام مطعم شهير يقدم وجبات «السوشى»، مجموعة من الشباب يتحدثون فى نبرة تحدٍ.. «مين هيقدر يخلص الأوفر بتاعهم، بيقولك ٤٠ بيس بـ١٥٠ جنيه!»، أنظر فى ساعتى، أجدها اقتربت من العاشرة مساء ولم أشعر بالجوع بعد، أبتسم وأتذكر صديقى الذى منحنى رغيف الخبز فى محل الكشرى، وأتمنى له أن يكون عاد لمنزله مجبور الخاطر.