الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مسار الدولة المصرية على الساحة الدولية.. نظرة موضوعية "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى الطريق إلى رصد مسار صحيح للدولة المصرية على الساحة الدولية، تبدو الحاجة مُلحة إلى بلورة «جديد» نضيفه إلى كثير من تراثنا السياسى، وقد توقفنا به طويلًا إلى جوار معطيات تجاوزتها الأحداث منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضى، حيث انتهت الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ إذ بلغ النظام الدولى مرحلة القطبية الأحادية بزوال الاتحاد السوفيتى، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على الساحة الدولية.
فى هذا الإطار، لعل من المفيد أن نُعلى من شأن «نسبية» الأمر؛ فغياب الاتحاد السوفيتى لا يعنى أن روسيا، كوريث شرعى، لا تمتلك من عناصر القوة ما يمكنها من النهوض بدور بارز على الساحة الدولية. كذلك فإن الإقرار بالهيمنة الأمريكية، لا يفيد انفرادها بالأمر على نحو يلغى ما فى حيازة بعض القوى الدولية من عوامل تأثير حقيقية فى العلاقات الدولية المعاصرة.
ولا شك أن الحرب الباردة، التى اندلعت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى انهيار الاتحاد السوفيتى، كانت حقبة مليئة بالفرص «السهلة» التى أضافت الكثير إلى قدرة الدول النامية على المناورة على الساحة الدولية؛ إذ كان ضمها والتحالف معها هدفًا معلنًا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، بموجبه تتلقى جملة من المساعدات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وبالتالى شهدت أراضى الدول النامية المستهدفة حروبًا بالوكالة عن المعسكرين الكبيرين، الغربى والشرقى.
تأسيسًا على ذلك، باتت الحرب الباردة حُلمًا يراود الكثير من الدول النامية، تتطلع من خلاله إلى استعادة قدرتها على حركة أكثر انسيابية على الساحة الدولية. ومن هنا راجت تفسيرات، غير موضوعية، تؤكد أن حربًا باردة باتت وشيكة، أو ربما وقعت بالفعل بين الولايات المتحدة وروسيا، وفى أقوال أخرى إن الأمر على هذا النحو يحمل بشائر حرب عالمية ثالثة.
وربما غاب عن هؤلاء ما للعامل الاقتصادى من تأثير فى حسابات القوة الشاملة للدولة، فخلف اتساع الحرب الباردة، ودهشة الصعود إلى الفضاء الخارجى، وقسوة ترسانة الأسلحة النووية، اختفى الاقتصاد القزم للدب الروسى. والحال أن روسيا لا تملك الكثير اقتصاديًا، خاصة فى ظل «دبلوماسية الطاقة الأمريكية»، وما تعنيه من وفرة إنتاج النفط الأمريكى ومحاولات إنتاج بترول صخرى اقتصادى، وبالفعل هوت أسعار البترول إلى مستويات بعيدة عن توقعات الدول التى تعيش على بيع النفط، ومن بينها روسيا، وفى الذاكرة كم كان للانخفاض الشديد لأسعار البترول أثره البالغ فى انهيار الاتحاد السوفيتى مطلع التسعينيات.
وعليه، تعانى مصر جراء تراجع الموضوعية فى أحاديث «النخب السياسية» إلى حدود تثير الشكوك حول قدرتنا على إنتاج خيال سياسى يحمل إبداعًا جديدًا للثورة المصرية على الساحة الدولية. ومنشأ ذلك أسباب شتى، لعل أهمها الانفجار السياسى الذى شهده المجتمع عقب الثورة، حيث بات العمل السياسى شديد الجاذبية لرجال الأعمال، وغيرهم من هواة الظهور الإعلامى، وصولًا إلى حد الباحثين عن عمل حقيقى يقتاتون منه!. وبالتالى تغيب القدرة على تقديم «جديد» يطرح رؤى حقيقية تستلهم جذورها من مبادئ وقيم الثورة المصرية، التى طالما اتخذ منها بعض هؤلاء «النخب» ستارًا كثيفًا تختبئ خلفه جملة من سوءات النظم الفاسدة التى أسقطتها الثورة.
ولعل استيعابًا أكثر وعيًا بجوهر المعطيات المستحدثة على الساحة الدولية، يؤكد أن صراعًا بين الولايات المتحدة وروسيا، لا يمكن أن يبلغ حدودًا تُلبى «آمالًا» ضعيفة هشة، تتعلق بحرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا دفعًا بالدولة المصرية إلى تخطى عقباتها!.
فحقيقة الأمر أن ليس كل صراع سياسى يمكن أن نصعد به إلى حدود مفهوم الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا، لنستعيد زمنًا أشاع حولنا ما لا نملك من قدرات سياسية حقيقية. فضلًا عن أن حربًا باردة جديدة بالقطع لها أدواتها، ومقوماتها، ومعطياتها بما يتجاوز ما نحتفظ به فى ذاكرتنا من صراع على كسب ود وتدليل الدول الأصغر.
وبالتالى فإن نهجًا معتدلًا متزنًا أجدر بالدولة المصرية الحديثة أن تتبناه وصولًا إلى غاياتها المشروعة التى عبرت عنها الثورة المصرية فى موجتها التصحيحية فى الثلاثين من يونيو، لا أن نسحبها قسرًا إلى ماضٍ بعيد لا صلة له بما هو متوفر على الساحة الدولية حاليًا من قيم ومصالح وتوازنات قوى إقليمية ودولية.
فمن جهة، لا يعد مرتكزًا ثوريًا صحيحًا أن ننطلق إلى بناء دولتنا المدنية الحديثة من مواقع قوة لا نملكها، فمصر لن يبنيها إلا أبناؤها، ومسار سياسى آمن وطموح لن تبلغه الدولة المصرية على الساحة الدولية اعتمادًا على إرشاد روسى نهتدى به بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية؛ إن غابت رؤى وطنية موضوعية.
من هنا فإن توازنًا حقيقيًا على الساحة الدولية، يمكن أن يضيف الكثير إلى رصيد القوة الشاملة للدولة المصرية الحديثة، استنادًا إلى صحيح مفهوم العلاقات الدولية باعتبارها التعبير الأصدق عن مجموعة من المصالح المشتركة، والاعتماد المتبادل.
كذلك فإن قبول مستجدات التوازنات الإقليمية، والسعى بجدية إلى حصول مصر على نصيب عادل منها، لا ينبغى أن يظل مجالًا للمزايدة من جانب بعض «النخب»؛ إذ لا سبيل إلى بناء دولة حديثة على قواعد تم هدمها بعد ما فشلت فى إنجاز استقرار حقيقى للمنطقة؛ فليس فى إنكار بزوغ قوى إقليمية، إلا ما يدفعنا إلى مصادمات غير ذات موضوع، بل إن قدرتنا على بناء مصر الحديثة، يظل رهنًا بما نقدمه من خيال سياسى مُبدع يهيئ لنا مسارًا آمنًا وطموحًا على الساحة الدولية.