الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في المدرسة من جديد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تتلمذت فى الجامعة على يد الدكتور مصطفى ماهر، أستاذ اللغة الألمانية ورائد من رواد الترجمة الذى نقل الكثير من كلاسيكيات الأدب الألمانى إلى اللغة العربية، والذى كان رئيس قسم اللغة الألمانية فى كلية الألسن عندما كنت طالبًا بالقسم خلال ثمانينيات القرن الماضى.
فى السنتين الثالثة والرابعة كان الدكتور مصطفى ماهر يدرس لنا مادة تاريخ الأدب الألمانى. وفى الصف الرابع قرر علينا رواية «القضية» للأديب التشيكى الألمانى فرانتز كافكا... مؤسس الأدب الحديث.
التعرف على كافكا فتح لخيالى بابًا لم يوصد إلى الآن، بابًا للخيال والفن السيريالى والرؤية الذاتية للعالم، وقدرة الأدب على أن يكون مفجرًا وصادمًا ومختلفًا عن كل شيء.
كان الروائى الكولومبى الشهير جابرييل جارثيا ماركيز، صاحب «مئة عام من العزلة» و«خريف البطريرك» و«الحب فى زمن الكوليرا»، قرر أن يصبح أديبًا عقب قراءته لقصة «المسخ» أو «التحول» لكافكا، والتى تبدأ باستيقاظ بطلها صباحًا ليكتشف أنه تحول إلى حشرة. 
الدكتور مصطفى ماهر ربما تجاوز الثمانين الآن، أطال الله فى عمره وأمده بالصحة، وللأسف لم تمتد علاقتى به خارج الكلية، ولكن التأثير الذى تركه على تفكيرى لا يمكن أن يمحى.
لم يكن الدكتور مصطفى يهتم بالتعليم التلقينى المعتاد، بقدر ما كان يقضى معظم محاضراته التى تصل لأربع ساعات فى «تثقيفنا»، متحدثًا معنا فى أمور عامة، مثل ضرورة قراءة الأدب الرفيع والاستماع إلى الموسيقى والتعرف على عادات وتقاليد الحضارات الأخرى، وأيضا التعرف على تراثنا العربى، وعلى أعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وغيرهم.
كانت دار الأوبرا الجديدة التى توسطت ميدان قصر النيل، قد افتتحت حديثا، وقد نصحنا الدكتور مصطفى ماهر كثيرا بالتردد على عروضها، شارحًا لنا بعض أنواع الموسيقى والباليه والأوبرا، ومن بين كلماته التي علقت فى ذهنى نصيحة لا أنساها، قال لنا الدكتور مصطفى ما معناه:
«لكى تذهبوا لحضور عروض الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا، يجب أن تكونوا مستعدين ذهنيًا ونفسيًا وبدنيًا. مثلا لا تذهبوا وأنتم مجهدون أو لم تنالوا قدرًا كافيًا من النوم...قبل الذهاب لا تأكلوا ساندوتشات فول وطعمية أو وجبة طبيخ ثقيلة بالتقلية...ليست العبرة بثمن الوجبة، ولكن بنوعها. يجب أن تكون معدتك مرتاحة، حتى يسترخى عقلك ويستمتع بالفن الراقى، الذى يخاطب العقل والروح وليس تحريك البدن، بدلًا من الفول أو الطبيخ، تناول ساندوتشًا خفيفًا من الجبن، أو علبة تونة». 
«قبل أن تذهبوا لحضور حفل لموسيقى بيتهوفن أو موتسارت، اقرأوا قليلًا عن المؤلف والمقطوعات التى ستعزف. كل مجهود أو وقت تنفقونه فى الاستعداد، سوف يثمر لكم متعة أكبر وسوف يطور عقولكم ونفوسكم وشخصياتكم أكثر». فيما بعد قرأت معنى مماثلًا للكاتب والمترجم ثروت عكاشة يقول فيه إن الموسيقى العالمية، التى نطلق عليها كلاسيكية، جعلته يشعر ويفكر بشكل مختلف، ويختبر تجارب ممتعة مختلفة.
لم ألتق الدكتور مصطفى ماهر منذ أن تركت الجامعة، ولكننى ألتقى بين حين وآخر بالدكتور طارق عبد البارى، الذى كان وقتها لم يزل معيدًا بالكلية أيام دراستى، وكثيرا ما نتطرق إلى ذكرياتنا مع الدكتور ماهر والدروس القيمة التى تعلمناها منه فى مجالات الثقافة والحياة بشكل عام.
مرت برأسى هذه الذكريات أثناء حديثى مع سائق تاكسى، كان يشكو لى من انهيار التعليم والقيم التعليمية وغياب القدوة والتصرفات والسلوكيات السيئة لمدرسي هذه الأيام.
وقلت له ما أقوله أحيانا فى مناسبات مختلفة إننى تعلمت فى مدارس حكومية عادية جدا، ولكننى لحقت بآخر تعليم جيد كان يوجد فى مصر، فلم أتلق درسًا خاصًا فى حياتى، باستثناء الالتحاق بمركز للمجموعات الخاصة فى كل المواد فى الثانوية العامة فقط كان مقابل مبلغ زهيد بمقاييس أيامنا والأيام القديمة أيضًا.
من أقدم ذكرياتى عن التعليم والمعلمين خلال المرحلة الابتدائية مدرسة اللغة العربية «حسنية». كنت وما زلت ضعيفا فى «الحساب»، أى الرياضيات أو «الماث» كما يطلقون عليه هذه الأيام، وكان مدرس الحساب الأستاذ نبيل غير مقتنع بأننى قادر على النجاح، وتجاوز المرحلة الابتدائية، ولكن الأستاذة «حسنية»، التى كانت معجبة بموهبتى فى اللغة العربية، وتتنبأ لى بمستقبل باهر، تحدت الأستاذ نبيل وراهنته على أننى سأنجح بتفوق، وأخبرتنى بأنها تراهن علىّ ويجب أن أشرفها، ومن أجلها بذلت مجهودا خارقا فى مادة الحساب، ونجحت فى الابتدائية بمجموع كبير وعلى درجات ممتازة فى مادة الحساب أذهلت الأستاذ نبيل نفسه.
فى مقال سابق حكيت أيضا عن مدرس اللغة العربية بالمرحلة الإعدادية الذى اكتشف أننى أحب القراءة وأقرأ لبعض كبار الأدباء خارج المناهج الدراسية، فتوسم فىّ الخير، وساعدنى كثيرا بالنصح والتوجيه والرعاية، مما دفعنى إلى مزيد من القراءة حتى أكون على قدر الثقة التى استشعرها نحوى.
لماذا أتذكر أيام التعليم الآن؟
ربما لأن ابنتى التحقت بالمدرسة منذ أسابيع قليلة وأعيش مجددًا كيف يصنع التعليم والمعلمون مواطنين صالحين أو فاسدين. وكيف يؤثر معلم أو معلمة واحدة إيجابًا وسلبًا فى تشكيل عقل ووجدان أجيال بأكملها.
ربما لأن كل ما نعانى منه من مشاكل وأمراض اجتماعية وتشوهات عميقة أصابت الشخصية المصرية لأجيال مضت وأجيال عديدة قادمة، هو الثمار الفاسدة لحقل ملوث واحد هو التعليم.
لو طلب منى أن أختصر خلاصة ما أريد أن أقوله للدنيا فى كلمة واحدة فقط قبل أن أموت فلن أقول سوى: «التعليم...التعليم...التعليم».