رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يوم مات الأستاذ "٣-٣"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نكمل اليوم ذكريات الساعات الأخيرة فى حياة أديبنا الكبير الراحل الأستاذ نجيب محفوظ.
مال سلماوى على أذن الأستاذ نجيب اليسرى..
وقال بصوت عال: أحلام فترة النقاهة صدرت يا أستاذ نجيب. وهذه نسختك الأولى التى خرجت من المطبعة!
بالطبع لم يكن الأستاذ يسمع..
لكن سلماوى وضع الكتاب أمام عينيه. لكن الأستاذ لم يفتحه. ومع ذلك فقد مضى سلماوى يصف له شكل الكتاب وحجمه. ثم فتح الكتاب وقلب فى صفحاته..
وتوقف عند حلم الأستاذ:
«رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات. وتذكرت بصفة خاصة المرحومة «ع» فاتصلت بتليفونها. ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل. وهناك رحبت بها بقلب مشوق. واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأولى».
ثم يتوقف سلماوى برهة عن تكملة الحلم. وهو يتخيل الأستاذ يبتسم
ويقول له، ولكن هذه المرة بصوت هامس لا يسمعه الأستاذ ولا أحد غيره لأنه لا أحد فى الغرفة: على فكرة.. أنت لم تقل لى قط من هى «ع» هذه. صحيح أننى لم أسألك. لكن هناك أشياء كثيرة أشعر الآن أننى لم أسألك عنها!
وفى هذه اللحظة يدخل الأطباء الحجرة فجأة..
ويتخيل سلماوى أن دخولهم هو الذى منع الأستاذ من الرد عليه. وأنهم لو لم يدخلوا الحجرة لكان الأستاذ قد ضحك ضحكته المجلجلة.
ويغادر سلماوى المستشفى وهو يجرجر أحزانه مع قدميه..
لكنه يعود فى اليوم التالى فيجد الأستاذ على نفس الحال ونفس الغيبوبة. نائمًا على ظهره والأنبوب الكبير فى حلقه. وخراطيم المحاليل واصلة إلى عروق رقبته. وخراطيم أخرى فى يديه. وخرطوم المعدة متدل من بطنه.
ولا صوت فى الحجرة سوى صوت دقات رتيبة تأتى من الأجهزة الطبية المعلقة فوق سرير الأستاذ. الذى ازداد وجهه شحوبًا..
ورغم ذلك يقول له سلماوى: صباح الخير يا أستاذ نجيب!
ويجلس سلماوى إلى جوار السرير. وينظر فإذا كتاب «الأحلام» الذى تركه بالأمس فى مكانه. فيفتح الكتاب. ويجد نفسه وعينيه أمام كلمات حلم الأستاذ!
«نادانى الشوق لرؤية الأحباب. فتوجهت صوب الحى العتيق. وكالعادة قطعت الطريق مشيًا على الأقدام. حتى بدا لى البيت القديم وذكرياته. ولم أضيع وقتًا. فأخذت فى الصعود نحو الطابق الثالث والأخير. ولكنى دهمنى إرهاق غير يسير. عند منتصف السلم. جعلنى أفكر فى تأجيل الرحلة.
لولا أن طبعى يأبى التراجع. وبجهد جهيد واصلت الصعود. حتى بلغت البسطة الثالثة. ومن موقفى الجديد لاح لى باب الشقة غارقًا فى الصمت والسكون. فعلمت أنه لم يبق من الصعود سوى عشر درجات وهن ختام السلم. لكنى لم أر درجة واحدة. ووجدت مكانها هوة عميقة.
فخفق قلبى خوفًا على آل البيت. ومع أن الوصول بات متعذراً. إلا أننى لم ألتفت إلى الوراء.
ولم أفكر فى التراجع. بل لم أفقد الأمل. وجعلت ألصق بصرى بالباب الغارق فى الصمت والسكون. وأنا أنادى وأنادى. من الأعماق»!
ويقطع دخول عدد من الممرضين إلى الحجرة حديث سلماوى الصامت مع نفسه. وكان فى تلك اللحظة قد بلغ من انفعاله أشده. مأخوذًا بنداء الأستاذ فى الحلم. ذلك النداء الذى كان ينتظر أن يسمعه.
ويناجى سلماوى ربه:
« يارب.. إن رحمتك واسعة. وقدرتك فائقة. أبقه بيننا لأننا ليس لدينا مثله أحد. لقد أبقيته ما يقرب من ٩٥ عاما. لكنا لا نطلب المزيد. فلسنا نعرف كيف نعوضه. اتركه لنا عامًا آخر أو اثنين لنزهو به بين الأمم. اتركه لنا بضعة أشهر. حتى حلول عيد ميلاده الـ٩٥. أعطنا الفرصة أن ندخل البهجة إلى نفسه. ونحن نقول له فى ذلك اليوم «عقبال مائة سنة». اتركه لنا شهرًا واحدا. وسنجتهد خلاله أن نفعل له ما تفعله أمم الأرض كلها لعظمائها. والذى لا نفعله نحن إلا حين لا يستطيعون رؤيته!
فى التاسعة من صباح اليوم التالى..
يدق جرس تليفون سلماوى. على الطرف الآخر الدكتور «زكريا عزمى» رئيس ديوان الجمهورية، الذى يقول له بتأثر: البقية فى حياتك.. الأستاذ نجيب توفى إلى رحمة الله!
ويهرع سلماوى إلى المستشفى فى حال لا يعلم به سوى ربه. وهو يحدث نفسه بأن الأستاذ أخيرًا رحل إلى حيث أحباؤه الذين اشتاق إليهم. وكان يناديهم فى مماتهم. ربما ليخبرهم أن ينتظروه. وها هو مشوار الأستاذ قد اكتمل.
وحين يصل المستشفى يدخل على الفور إلى حجرة الأستاذ. ويجد أن الملاءة تغطى السرير كله. والسرير يبدو خاليا. يرفع سلماوى الملاءة. ليجد وجه الأستاذ أمامه. تكسوه مسحة من السكينة. لم يرحل وسط نوبة ألم. لكنه كان قد فقد لونه تماما.
كان وجه الأستاذ هادئًا بلا تعبير. تمامًا كما كان منذ قال إن يريد أن «يروح».
ويعصف الانفعال بسلماوى.. وتهزمه دموعه.
وتجرى بقية الأحداث كما جرت. وتتفق كل الآراء على إقامة جنازة عسكرية وشعبية مهيبة للأستاذ. ويحضر الجنازة رئيس الجمهورية حسنى مبارك. وكل رموز مصر الأدبية والسياسية والبسطاء الذين عاش وكتب لهم وعنهم نجيب محفوظ.
وفى طريق عودة سلماوى بسيارته بعد الجنازة وتشييع جثمان الأستاذ الثرى. يضع سلماوى شريط تسجيل يحمل صوت الأستاذ وهو يقص على سلماوى بعض «أحلامه».
ويأتيه عبر المسجل صوت الأستاذ بأول حلم بعد أن عجزت يده عن كتابته. تلك اليد التى ظلت تكتب حتى أعيتها الدنيا. وصارت كتابتها تستعصى على القراءة.
فى تلك اللحظة..
يرى سلماوى وجه الأستاذ. ويسمع صوته يقول فى حلمه:
«رأيتنى فى حى العباسية أتجول فى رحاب الذكريات. وتذكرت بصفة خاصة المرحومة «ع» فاتصلت بتليفونها ودعوتها إلى مقابلتى عند السبيل. وهناك رحبت بها بقلب مشوق. واقترحت عليها أن نقضى سهرتنا فى الفيشاوى كالزمان الأولى. وعندما بلغنا المقهى خف إلينا المعلم القديم ورحب بنا. غير أنه عتب على المرحومة «ع» طول غيابها. فقالت إن الذى منعها عن الحضور الموت. فلم يقبل هذا الاعتذار. وقال إن الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة» !
وهنا يعيد سلماوى شريط التسجيل قليلاً..
- فيسمع صوت الأستاذ يقول: «الموت لا يستطيع أن يفرق بين الأحبة»!