الأربعاء 22 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

برشلونة على سبيل الفضفضة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ليس عندى مبرر لكتابة السطور القادمة، فقد سبق أن كتبت مثلها آلاف بل ربما ملايين السطور، فمنذ أن وطأت أقدام أولى البعثات أرض أوروبا فى عهد محمد على، بل وقبلها منذ الحملة الفرنسية ونحن هنا قد أصبنا بصدمة حضارية.
أصابت المبعوثين الصدمة أو الدهشة عندما رأوا الفجوة الهائلة التى تفصل بين بلادهم وبلاد «الفرنجة» كما كانوا يسمونها، وقف على حافة الفجوة رفاعة الطهطاوى، وعلى مبارك، ومحمد عبده حتى طه حسين، ويحيى حقى، وتوفيق الحكيم وغيرهم، تجاوزوا الصدمة أو الدهشة، كل بطريقته، محاولين أن يبنوا جسورا بين حافتى الفجوة، وبعضهم حلم بردمها، وكانت البداية منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، خلالهما انسكبت الأحبار بغزارة على الأوراق عن «هناك» مقارنة بـ«هنا» عن دساتير وفنون ونظام وقيم وقواعد وقوانين، مع كل هذا الجهد يظل التعبير عن «هنا» ووصفه الدقيق فى قصيدة الراحل العظيم بيرم التونسى «يا ريت يا إخوانا ماروحتش لندن ولا باريز».
لم تكن المرة الأولى بالنسبة لى التى أغادر «هنا» وأذهب إلى «هناك». فى كل المرات أصاب بالحسرة بعد المقارنة.
كنت فى برشلونة تلك المدينة الصغيرة من مدن إسبانيا فى إقليم كتالونيا الذى يسعى مواطنوه للاستقلال، هناك، كما فى كل «هناك»، القوانين مطبقة والإنسان محترم فى إطار القانون واحترام حرية الغير، أعرف أنه قد سبق وكتب غيرى نفس الكلام، كتبوا عن انضباط المرور وحقوق المعوقين فى رعاية خاصة فى وسائل المواصلات وعن تخصيص أماكن لكل نوع من أنواع المواصلات، فهذه للأوتوبيسات، وتلك للتاكسيات وغيرها للسيارات والدراجات، كتب غيرى أنه ليس مطروحا ولا فى الخيال أن يقف تاكسى فى منتصف الشارع ليفاوض على الأجرة وليفاوضه الراكب ونصف جسده فى الشارع ونصفه الآخر محشور فى الشباك، ليس مطروحا ولا فى الخيال أن يقف الأوتوبيس فى منتصف الشارع وتمر دراجة عن يمينه مطيحة بالهابطين منه.
إن المشهد هناك يصيب بالوجع والحسرة بعد تجاوز الصدمة والدهشة، شوارع نظيفة، صناديق قمامة تفتح إلكترونيا، لا يوجد ورقة خارج غطاء الصندوق، متحف كبير تملأ رؤيته الروح بالجمال لا يعرف فوضى الألوان ولا قبح الطراز المعمارى، آثار ومزارات لا يطاردك فيها شحاذون ولا متطفلون ولا تسمع كلمة «كل سنة وأنت طيب يا باشا» باللغة الإسبانية. مدينة شابة يملأ شبابها الفضاء بالحركة والعمل، ونضارة الحياة تضىء وجهها، فليس بين العابرين عابس أو متجهم. ورغم صعوبة التواصل فابتسامتهم الطيبة هى اللغة. فى الجامعة طلبة وطالبات معا يتنفسون هواء الحرية، بداية من المظهر وحتى حرية التفكير، كنت مدعوة أنا وغيرى للحديث فى كلية الحقوق عن أوضاع النساء فى بلدان الربيع العربى، ومدى التزام الحكومات بالاتفاقيات الدولية، خصوصا اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة «سيداو»، وبالمناسبة أيضا فهذه الاتفاقية مع غيرها من الاتفاقيات تُدرس فى كلية الحقوق بجامعة برشلونة، ومن المعروف بالضرورة أن كليات الحقوق تضم طلبة من الجنسين، أولاد وبنات، ويدرس الأولاد اتفاقية «مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة». هل وصل المغزى والمعنى أم أننا سنعيش الإحساس بالحسرة إلى الأبد، والبنات المحجبات فى الجامعة قادمات من المغرب، وتونس، وأفغانستان تعلمن كيف يطرحن وجهات النظر المختلفة، وتعلمن أن يحترمن الرأى الآخر. الجامعة كما الشوارع متحف مفتوح للتماثيل القديمة وتماثيل الرموز. بالطبع ليس هناك أحد حاول أن يغطى تلك التماثيل أو أن يدمرها كأى مجرم فى غفلة من الرقابة والعيون باعتبارها أصناما، وباعتبار وجودها مخالفا للعقيدة والشريعة.
يبدو أن الفجوة قد زادت اتساعا، ويبدو أيضا أنها كانت أقل كثيرا أيام أن حاول الطهطاوى ورفاقه وتلاميذه عبورها، لذا فأنا لا أجد مبررا لكتابة هذا الكلام، ربما كتبته على سبيل الفضفضة.