الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حسنة الفقي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مازلت أترقب وصولها، وأستمهل الموت الذى يرفرف بجناحيه خارج نافذتى.. أرهف سمعى لخطواتها، أتشمم رائحتها، وعيناى محدقتان نحو الباب، ومع كل طرفة أختلس النظر إليه. لم أره منذ زمن، فكأنه قادم من سفر بعيد، على معطفه الأسود بعض قشات عالقة، ورائحة مطر مبكر تشبع الهواء، ويبدو أن جدوله اليوم لم يكن مثقلًا بالأعمال بما يسمح له بالتريث.. لكن من يستضيف الموت أو يقدم له كوب شاي؟!
لا أجد ما أعبر به عن امتنانى له سوى أن تزيح ابنتى الستائر أكثر، وأن تفتح النافذة كى أخبره أن انتظاره لن يطول، فهى الآن قادمة عبر الحديقة، وواثقة أنا أنها حين تطل بوجهها، وأتنفس هواءها سيبتعد عن إطار النافذة ويتركنا دون رقيب.
آه أيها الموت كم أنت رقيق.
ليست المرة الأولى التى تنتظرنى فيها.. فى الأيام البعيدة، كانت تعبر بى الشارع، تمسك بيدى، لا أشعر بملمس جلدك، لكن إحساسًا بالأمان يسرى فى عروقى.
عادة ما كنت أنجو من خطر قادم يراه ولا أراه.
يدفعنى بيدين قويتين، أقع بجوار حائط، وقبل أن أبكى أراه قد طار ومعه طفل آخر، تتجمع النسوة، تتقدم واحدة من الطفل الملقى على الأرض، تتفحصه، فى رأسه جرح من حافر الثور الهائج، تتحسس وجهه الأزرق، تناديه، تهزه، لكنه مضى بعيدًا، يرتفع الصراخ، تشق أمه جلبابها ويظهر قميصها ولحمها الأبيض.
كان الرجال منشغلين بتقليع البطاطس، وحده الرجل الذى فرَّت بقرته وأبناؤه يقفون بعيدًا على حافة المشهد.
ينتبهون لى، تهزنى جارة: ماذا حدث؟! أبتلع صوتى وأشير بيدى، بينما ذهولى يخنقنى، أنفض ثوبى وأسوى ضفيرتى وأنظر إلى الولد الذى كان يشاكسنا، ونحن نستحم فى النيل، يأخذ ملابسنا ويصعد بها إلى شجرة الصفصاف، أو يخلع ملابسه متباهيًا بعورته، فتخرج البنات مسرعات ولا نتمتع بالسباحة.
يجتمع أهل البلدة وينادون على أبى، فيأتى رجل يرتدى ملابس نظيفة، رائحته حلوة وشاله الأبيض لا يفارق كتفه أيًا كان لون الجلباب الذى يرتدى، وجهه مستدير وعيناه زرقاوان كلون البحر الذى رأيته فيما بعد، وأصبحت لى عشة على شاطئه. يشترى أبى الكفن مع عم الميت، وبعد المغرب تقود أمى بكاء النساء. أمى تعرف مواطن الدمع جيدًا ولا تخطئ مرة فى دربها، تذهب وتغيب على جناح عدودات طويلة:
«يا أرض سَمى له ساعة ما وقع..
كَبش الحصَى بيمينه.
يا أرض سمى عليه ساعة ما وقع..
كَبش الحصى بإيديه».
ثم تعود ومعها مخزون بئر من الدموع المالحة يحفر مجراه على خدود النساء، فيزداد العويل ويرتفع حماسها:
«لما أنتِ عارفه يامه إنك تِعُوزينى..
كنتِ اقفلى الباب وحُوشينى..
لما أنتِ عارفه يامه أنا المنعاز...
كنتِ وقَّفيلى على كل باب حراس..»
وبعد العشاء تضع كل واحدة من المعزيات ما تجود به فى منديلها، وقبل أن تغادر تقذفه إلى أمى، فتأخذ النقود دون أن تنظر فيها، وترد المنديل إلى صاحبته.
نفس البكائيات كتب عليك أن تردديها بعد ثلاثين عامًا.. فى تلك اللحظة كنت فى مركز الضوء، وصورة «منير» لا تفارق عينيك، غابت البنت المنزوية التى تنتظر أن تنهى أمها مهمتها، وأصبحت السيدة التى صادقت الموت طويلًا حتى تعودت عليه.
جاءنى ذات ضحى، الشمس ملتهبة وحارقة، ملابسه متسخة كأنما سقط فى بركة آسنة، جلس إلى جوارى وحكى لى عن يومه:
- وقع الولد محمد فى البركة، مددت له يدى، لكنه جذبنى إليه، ظللت أصارعه وهو يعافر، إلى أن أخرجته أمه من الماء.
ساعتها هل تبينت حقيقته؟ هل خفت منه؟ لا.
وجهه الباهت صار قرمزيًا وسالت دموعه دافئة وهو يردد:
- سأتوقف عن العمل، أينما ذهبت يغلقون الباب فى وجهى، ويستعيذون منى، مللت الحياة، سأرحل وأترك هذه البلدة الخربة.
ربَّت على كتفه وقلت له:
- ما تزعلش.
أحضرت له كوب ماء بسكر ووضعته إلى جانبه.
- اعمل اللى أنت عايزه، وأنا هلعب معاك.
اصطحبُ معى أخى «يحيى».. نستحم فى النهر نصطاد الفراشات، نجرى فى الحقول..أستريح تحت ظل شجرة الجميز، أتحسس جذعها الضخم أحيطها بيدى فلا تكتمل الحلقة حولها، أتطلع إلى فروعها التى تشاكس ضوء الشمس. يسألنى:
- هل تودين الصعود؟
أبتسم.
- ما أقدرش.
يمسك بيدى، يتسلقها بمهارة، أصعد خلفه، تمتد فروعها، تتكاثف، تتشابك، وكلما أوغلنا فى الصعود تتحور أوراقها، وتتفتح براعمها ثمارا مختلفة: توتا، تينا، رمانا، برتقالا، تفاحا أحمر. يتدلى عنقود عنب كبير، حباته بلورية شفافة، تخرج من كل حبة حورية، يرفرفن حولى، تمسك واحدة بيدى، تكتمل الدائرة، نرقص فى ضوء الشمس، فيتحول شعرهن الأبيض للون الذهبى، وأتحول إلى فراشة، أرفرف عاليًا، أحاول الوصول للشمس، تجذبنى أكثرهن حكمة، وتقص أجملهن خصلة من شعرها، تعطيها لى، بمجرد لمسى لها تتحول فى يدى إلى غزل البنات، أنشغل به، أقربه من فمى فيذوب حلاوة على طرف لسانى. ينقضى الوقت وتقترب الشمس من المغيب. تعود الحوريات إلى عنقودهن، أسرع بالهبوط. فى طريقى أقطف تفاحة حمراء أخفيها فى جيبى، عندما ننزل تختفى التفاحة ويمتلئ كفى بحبات الجميز. أعود ليحيى الذى يجلس تحت الشجرة، يلعب بالطين يصنع منه عروسة تشبهنى، أطلب منه أن يصنع دمية لصديقى، يصدمنى بقوله:
ولد صغير!! قصدك مين؟!
لماذا يتجاهله، ويبتعد عنه، كأنه لا يراه.
... يوم، اثنان، أسبوع، شهر، ثلاثة، سنة.. لم يرتفع صوت، لم يتحرك أبى من مكانه، يهش الذباب عن وجهه، يتشاجر مع أمى: «قل الخزين من القمح وكيزان الذرة والقوالح». هل الموت هو السبب ؟ أفكر.. عليه أن يكف عن اللعب، ذهبت إليه وقبل أن أتكلم، بادرنى:
لقد مللت هذا اللعب.
وعادت رائحة الطبيخ للبيت.
وبقيت أنا أترقب وصول حفيدتى العائدة من سفر طويل، وقبل أن أكون أنا ما أنا كنت أنتظرها. كم مرَّ من الوقت؟ وأنا أردد ستأتى الساعة التى أتخلص فيها من حساباتى، ومساوماتى، وتجميعى للدقائق والساعات، كى تصنع يومًا مناسبًا، والتقاطى للحظات الصفاء ووضعها فى واجهة أيامى، بضاعة جيدة تخفى ما بداخل القفص من أيام ممجوجة. أجلس تحت شجرة، أسند ظهرى لجذعها، أتأمل السحب الصيفية البيضاء التى تتسابق وتتداخل أشكالها.. جبالها، غزلانها، مراعيها وأرانبها الفارة من صياديها، تشد الشمس الغطاء على وجهها، طرحة من الدانتيلا الممتدة، طرفها العلوى فم مفتوح أهتم لعجوز مثلى يستند إلى عكازه ولحيته الشعثة تحمل فى طرفها غزالًا هاربًا، يعترض طريقه جبل، ينطحه بقرونه والجبل يقهقه، وصدى ضحكته تهزنى وتخرج من مكامنى كل غيلانى وأشباحى وكلابى المسعورة، وتبخ شرورها فى وجهى، وتعبث بى قدر ما تستطيع، يدفعنى الرعب للجرى بأكبر من طاقتى، فأعود أجرى وما لى سوى حضن «عائشة»، وحين يستقر وجهى اللاهث بين ثدييها الطيبين، تنتبه الشمس وتتعاطف مع غزالى، فتخترق أشعتها قلب الجبل الصلد وتبدد غيماته، لكن أشعة الشمس التى لا تعرف التمييز، تبدد جسم الغزال أيضًا، وتفرق أجزاءه، يرقد رأسه أمام عكاز العجوز الذى يبقى نائيا ووحيدا كما النجوم.
هذا العجوز تُراه أى رفيق من رفاق اللعب عند الساقية؟ ففى ليالى رمضان يتاح للبنت الصغيرة أن تسهر خارج البيت، ويَعِدُ رفاقها «عائشة» أنهم سيعودون بها بعد انتهاء اللعب.
- ما تخافيش يا خاله. مش هنسيب حَسنة ترجع لوحدها.
وبعد إلحاح يقترب من البكاء توافق الأم. فى تلك الأيام لم يكن رمضان يأتى إلا صيفًا والجرن مليء بالقمح، والبراح لا يحده سوى الغيلان والخوف من الجنيات التى تخرج من النهر لتغوى الرجال، فينسون زوجاتهم وأبناءهم الصغار، ويهيمون على وجوههم بملابسهم المقطعة، ويصبحون مثل «جاد المبروك» الذى يقرص بنات البلد دون أن يجرؤ أحد على أذيته خوفًا من «صباح» الجنية التى تخاويه.
نلعب الاستغماية ونتفنن فى الاختباء.
فى هذه الليلة قررت «حُسنة» أن تختبئ فى مكان من فرط قربه لا يتخيله أحد، فاختبأت خلف الساقية المهجورة.
كنت قريبة من الأولاد حتى أن أحدهم لو دقق النظر للمح ألوان جلبابى القطنى، كتمت أنفاسى وأنا أضحك من غفلتهم، ولم أظهر حتى وهم يعلنون عجزهم:
- خلاص غلب حمارنا، اظهرى بقى.
لكنى تماديت وخشيت أن يعرفوا سر مخبئى، وفى حيرتهم اقترح «محمد» ابن عم إسماعيل: يمكن روحت!
تعالوا نشوفها.
دفعنى القلق والخوف من أمى إلى الخروج من مكانى، فما إن أداروا ظهورهم لى حتى صحت وأنا فى منتصف الجرن:
أنا هنا، غلبتكم.