الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تفاصيل ملحمة حائط الصواريخ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى العامين ١٩٦٩ و١٩٧٠، ومع تواصل انتصارات مصر المتلاحقة على العدو الصهيونى، ومع تواصل هزائمه بدأ العدو فى رد وحشى بشن غارات جوية على مواقع مدنية، مستخدمًا طائرات الفانتوم والسكاى هوك الأمريكية.. وبلغت الطلعات الجوية للعدو فى الأربعة أشهر الأولى من عام ١٩٧٠ (٨٨٣٨ طلعة جوية) على طول خط الجبهة والمواقع الحيوية، إضافة إلى ٣٦ طلعة جوية على مواقع مدنية أهمها مذبحة مدرسة بحر البقر الابتدائية وقصفت فيها طائرات العدو المدرسة بالصواريخ ودمرتها تمامًا واستشهد فيها أربعون طفلًا وإصابة ٣٦ .. وقصف مصنع أبو زعبل فى ساعة ذروة العمل واستشهاد ٧٠ عاملًا وإصابة ٦٩ .. ومحطة الرادار فى نجع حمادى، إلى غيره من مواقع.
بعدها قرر الرئيس جمال عبد الناصر السفر إلى الاتحاد السوفيتى لمطالبة القادة السوفييت بأسلحة ومعدات دفاع جوى (صواريخ وطائرات ورادارات) أكثر تقدمًا مما كان متوافرًا.
وفى ٢٠ يناير ١٩٧٠ سافر الرئيس عبدالناصر إلى موسكو فى زيارة سرية على متن طائرة روسية مصطحبًا معه القائد العام للقوات المسلحة الفريق محمد فوزى ووفد من القيادات العسكرية المصرية وقيادات الخبراء السوفييت الموجودين فى مصر والأستاذ محمد حسنين هيكل.
وسوف أتوقف هنا أمام عدد من التفاصيل أو اللقطات التى أتاحت لى الظروف الإلمام بها وجميعها موثق عسكريًا:
- اللقطة الأولى: فى الطائرة جاءت أخبار الهجوم البحرى والجوى لقوات العدو على جزيرة شدوان، فاستشعر الفريق محمد فوزى خطورة الموقف، متحسبًا أن غزو الجزيرة قد يكون مقدمة لدخول قوات العدو مدينة الغردقة، وما يمثله من تهديد قد يصل إلى السد العالى، وطلب من الرئيس عبدالناصر أن يعودوا إلى مصر لقيادة المعركة بنفسه.
فجاء رد رئيس مصر: (اترك العسكريين فى مصر يقودون معركتهم بأنفسهم، وعودتنا معناها أننا لا نثق فى قدراتهم على مواجهة الموقف وهم سيواجهونه.. والعدو لن يدخل مدينة الغردقة..)، وتحقق ما قاله وتأكد أن ثقته قى قيادات الجيش الجديدة فى محلها.. وأجبرت سرية الصاعقة المصرية الموجودة فى الجزيرة قوات العدو على الانسحاب بعد قتال استمر ست ساعات تكبد فيه العدو خسائر بلغت ٣٦ فردًا بين قتيل وجريح .
- اللقطة الثانية: فى الطائرة ورغم نزلة البرد الذى كان مصابًا بها، جلس رئيس مصر جمال عبدالناصر يكتب بخط يده مذكرة بلغت ٢٦ صفحة، دون فيها كل النقاط التى يريد بحثها مع القادة السوفييت، ثم جلس مع العسكريين يناقش معهم ما دونه.
- اللقطة الثالثة: وصلت الطائرة فى العاشرة صباحًا، وكانت ملامح التعب بادية على الرئيس عبدالناصر، فطلب الرئيس السوفييتى بريجنيف إرجاء المباحثات حتى الغد ليأخذ الرئيس قسطًا من الراحة، لكن رئيس مصر جمال عبدالناصر رفض التأجيل حتى لا تطول فترة الزيارة عن اليومين ضمانًا لسريتها .
- اللقطة الرابعة: كان الطلب الأساسى للرئيس جمال عبدالناصر من القادة السوفييت هو الحصول على صواريخ سام ٣، لعدم قدرة صواريخ سام ٢ على مواجهة الطلعات الجوية المنخفضة لطائرات الفانتوم الأمريكية التى يستخدمها العدو فى غاراته على العمق المصرى، واحتدم النقاش ورأى القادة السوفييت صعوبة الطلب حيث إن صواريخ سام ٣ لم يتم تجربتها بعد، وكيف ستستخدم فى مصر بلا تدريب؟، ورغم أن الرئيس السوفيتى بريجنيف قال بوضوح - وكما هو موثق - .. (صديقنا ناصر يريد أن يحصل على كل ما يريده ونحن نريد أن نقدم له كل ما يحتاجه....) إلا أن نقاشات طويلة أوضحت صعوبة الاستجابة للمطلب أهمها ما ذكره القادة السوفييت حول أن الطواقم المصرية التى تعمل على سام ٢ لا يمكن أن تعمل على سام ٣ إلا بعد تدريب يستغرق ستة أشهر، ولا يمكن أن يتم التدريب إلا داخل الاتحاد السوفيتى، فماذا سيتم خلال الستة أشهر هذه؟ وهل ستذهب الطواقم نفسها وتصبح سام ٢ بلا طواقم أم ستذهب طواقم جديدة بلا خبرة للتدريب؟.. ورغم الصعوبات التى ذكروها، ورغم أنهم أصحاب السلاح ونحن من نحتاج للسلاح، إلا أن رئيس مصر جمال عبدالناصر كان متمسكًا بمطلبه، مقدمًا اقتراحًا قال فيه: (على الجبهة نحن مستعدون لتحمل كل المخاطر، وسنستخدم سام ٢، لكن فى العمق سوف نسحب الطواقم المصرية لتذهب للتدريب فى الاتحاد السوفيتى وتحل مكانها طواقم سوفيتية تأتى إلى مصر لاستخدام صواريخ سام ٣ فى الدفاع السلبى على هجومات العدو لمدة ٦ أشهر فقط بعدها تعود الطواقم المصرية المدربة ويعود السوفييت إلى روسيا).
فتحدث القادة السوفييت بأنهم سيكونون كما المشتركين فى الحرب وسيخلق أزمة من الدرجة الأولى، ويكون هناك تعرض لنشوب حرب نووية.. فجاء رد رئيس مصر: (الاتحاد السوفييتى يتعرض لهجوم فعلًا وأمريكا تتخذ ضدكم سياسات عدوانية فعلًا، وأنتم فقط تصدرون بيانات وهذا يضر بكم، وإذا نحن لم نستطع إصلاح موازين ما جرى فى ٥ يونيو سنضار، ولكنكم ستضارون أيضا.. نحن لا نريد حربًا نووية نحن نريد تصاعدًا محسوبًا ولا نريد منكم إلا الدفاع السلبى عن مواقع مدنية ولمدة ٦ أشهر فقط)، وازداد موقف رئيس مصر صلابة وتمسكًا بمطلبه قائلًا: (إذا كنتم تريدون أن يكون مستقبل العالم مستقبلًا أمريكيًا فنحن موافقون، وسوف نقول للعالم إن الاتحاد السوفييتى ترك المستقبل لأمريكا، وسوف أترك الحكم لزميل آخر يستطيع التعامل والتفاهم مع أمريكا…).
وفى اليوم الثانى وافق القادة السوفييت على كل شىء، وسميت العملية بـ (القوقاز).
- اللقطة الخامسة: أثناء المباحثات تحدث أحد القادة العسكريين حول صعوبة إمداد مصر بصواريخ سام ٣، مؤكدًا عدم خروجها من الاتحاد السوفييتى إلى أى بلد آخر حتى ولا دول حلف وارسو.. عندها قال القائد العام الفريق محمد فوزى: (دول حلف وارسو لا تحارب، مصر هى التى تحارب..)، قال هذا فى حضور رئيس مصر جمال عبدالناصر، وفى مواجهة القادة السوفييت (ومن عرف الفريق فوزى عن قرب يعرف كيف قالها بصوته الجهورى الأجش المخيف ).
- اللقطة السادسة: بعد انتهاء المباحثات ولحظة تأهب الرئيس عبدالناصر لمغادرة القاعة تقدم منه الجنرال (كاتشكي) كبير الخبراء السوفييت فى مصر محييًا إياه قائلًا: (سيدى الرئيس لدى مشكلة كبيرة، فخبراؤنا العسكريون الموجودون فى مصر يشعرون كأنهم جنود عصابات لأنكم تمنعونهم من ارتداء الزى العسكرى السوفييتى ويرتدون الـ(أوفر أول) بدون رتب، ويتساوى الجنرال والشاويش، كما أن الزى العسكرى السوفيتى لهم يمثل قيمة وكرامة، فأرجو السماح لهم بارتدائه..) فماذا كان موقف رئيس مصر جمال عبدالناصر وماذا قال؟.. فأجاب رئيس مصر على كبير الخبراء السوفييت فى مصر وأمام رئيس الاتحاد السوفيتى وقيادات الجيش قائلًا:
(مستعد أن ألبى لك أى طلب إلا هذا، فارتداء ضباطكم الزى العسكرى السوفيتى سوف يمثل للشعب المصرى ما كان يمثله لهم وجود ضباط الجيش البريطانى بزيهم العسكرى البريطانى وهم على أرض مصر قبل الثورة.. ولا يمكننى أبدًا تلبية هذا الطلب..).
وهكذا كانت مواقف وأقوال رئيس مصر باسم مصر وبلسان شعب مصر.. مواقفه التى كانت تعكس مدى الكرامة الوطنية لمصر ولشعب مصر..
وعاد الرئيس وبدأت ملحمة عظيمة (ملحمة بناء حائط الصواريخ) التى لم ولن أتقاعس أبدًا عن ذكر تفاصيلها مرارًا وتكرارًا لتكون لنا فخرًا بجيش مصر العظيم الذى أبدا لم ولن ينكسر ووفقًا لشروطنا .. وحتى نعلم كيف كان الدور السوفيتى العظيم مع مصر، وكيف أن العلاقات المصرية السوفيتية أثبت التاريخ كما يثبت الآن الحاضر أنها العلاقات الأصح والأقوى، وأن ما فعله أنور السادات مع السوفيت من إنكار وطرد يعتبر خطيئة عظمى لا تغتفر !!