الخميس 23 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عُمر من الخجل "٢"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى كتابه «العرى والخجل» للكاتب الألمانى هانز بيتر دوير، الصادر عن دار نشر «زوركامب» عام ١٩٩٤، وهو جزء من سلسلة كتب للمؤلف بعنوان «أسطورة التطور الحضاري»، يبدأ دوير بعرض لمفهوم الجسد العارى فى الحضارات القديمة الإفريقية واليونانية، ويبين أن ارتباط العرى بالعيب والخجل لم يكن شائعًا ولا معروفًا فى هذه الحضارات، بل على العكس كان العرى يرتبط بأفكار القوة والنبل والكمال، ولذلك غالبًا ما كان الأبطال وأنصاف الآلهة يصورون عراة.
الأمر نفسه نجده فى الحضارة الفرعونية التى كانت تتعامل مع عرى الرجل والمرأة بشكل طبيعى ونقى لا يحمل أى شبهة إساءة أو تحقير أو خجل.
متى وأين بدأ الربط بين العرى والعار؟
يرى المؤلف أن ذلك حدث فى أوروبا المسيحية خلال العصور الوسطى، التى نظرت بشكل عام للجسد كشيء مدنس قذر وموطن للغرائز «الحيوانية» التى تتعارض مع الروح والدين، وعلى رأسها الجنس والجوع والعطش.
كانت الفكرة الأساسية فى مسيحية العصور الوسطى، هى ترويض الجسد، بل محاربته وتعذيبه حرفيًا.
«حرمانية» الجسد العارى فى الإسلام تنبت من جذور مختلفة، فالجسد فى الإسلام ليس محتقرًا أو منبوذًا مثلما هو الحال فى المسيحية، والجنس نفسه ليس مرفوضًا طالما أنه يتم فى إطار العلاقات الشرعية، المتسعة بدورها، والتى لا تقتصر على الزواج من أربع، ولكن قد تمتد إلى «ما ملكت أيمانهم» وأنواع الزواج الأخرى مثل المتعة والمسيار والعرفى. «الحرمانية» فى الإسلام تتعلق فقط - أو كانت تتعلق فقط - بالتصوير سواء كان للجسد العاري، أو للجسد المغطى.
لذلك كثرت الكتب والأشعار «الشهوانية» فى العالم الإسلامى بدرجة ليس لها مثيل فى العالم، ورغم أن هذه الكتب والأشعار تمت مصادرتها منذ بداية القرن العشرين لدرجة أن الكثيرين لا يعرفون بوجودها حاليًا، إلا أن دور النشر الحديثة، خاصة خارج مصر، أعادت نشر الكثير من هذه الكتب والأشعار، التى يمكن أن تجدوها مجانًا على الإنترنت، والتى تدحض أى ادعاء أو جدل سقيم حول «عفة» الأجداد.
المشكلة إذن فى الصورة الفوتوغرافية والسينمائية، وليست فى الصورة الشعرية والأدبية واللغوية.
فكر أيضًا فى الشتائم والألفاظ والإيحاءات التى تتردد فى أذنيك يوميًا، فى الشارع والمقهى والتليفزيون والأفلام، والجلسات الخاصة التى تجمع الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وفكر فى الأدب الذى تخطى التابوهات منذ عقود، وبات يحتوى على نصوص «جنسية» لا تثير ما يثيره مشهد عابر لا يتجاوز ثواني معدودة فى فيلم سينمائي...بل إن الأفلام نفسها، حتى القديمة منها، تحتوى على إيحاءات ومعانٍ وألفاظ يتسامح معها المجتمع، ولكنه ينتفض من مشهد قبلة أو كتف عارٍ.
منذ عشر سنوات تقريبًا شاهدت أحد الأفلام المصرية الكوميدية التجارية فى حفل ما بعد منتصف الليل، والذى كان يبدأ عادة بعد الثالثة صباحًا ويستمر حتى صباح اليوم التالي.
كانت قاعة العرض تعج بالأطفال، وهو أمر لا أستطيع فهمه على الإطلاق، فالمصريون الذين لا يكفون عن الحديث عن التربية والأخلاق يسمحون لأطفالهم بالسهر حتى الصباح ومشاهدة «كل» و«أى شيء» يعرضه التليفزيون، بينما الغرب «الفاجر» لا يسمح فيه للأطفال بمشاهدة التليفزيون، إلا قنوات وبرامج بعينها تعرض صباحًا، ولا يسمح لهم بالسهر ومشاهدة التليفزيون بعد الثامنة مساء، بل ويتم تصنيف معظم ما يعرضه التليفزيون عمريًا حتى بعض المواد التى تذاع فى نشرات الأخبار.
كان الفيلم الذى يعرض فى القاعة التى كانت تعج بالأطفال من بطولة نجم عجوز متصابٍ تقع كل النساء فى غرامه، ويسعى لمضاجعة كل امرأة يلتقيها، وفى أحد المشاهد يطلق صاروخ على العمارة التى يقطنها أثناء نومه مع فتاة تصرخ قائلة «صاروخ» فيعتقد هو أنها تصف آلة فحولته وتضج القاعة بالضحكات الهيستيرية.
بجوارى كانت تجلس عائلة محافظة تنتمى للطبقة الوسطى: أم وبنات محجبات وأب يبدو أنه موظف وأطفال أشقياء يتحركون طوال الوقت، من الواضح أن السينما بالنسبة لهم تعتبر «فسحة عيد» وليست نشاطًا ثقافيًا أو ترفيهيًا منتظمًا...أعتقد أننا كنا فى إجازة عيد أو بداية إجازة الصيف. المهم أن أحد الأطفال راح يسأل أمه عن سبب ضحك الناس وكلما سألها تواصل الضحك دون أن تجيبه.
المصريون سيخبرونك أنه طفل لا يفهم ما يقال حوله، وهو ادعاء آخر يعرفون مدى زيفه، وأى مصرى يمكن أن يخبرك عن «خبراته» الطفولية الجنسية، وعن ذكرياته الأولى حول الجنس، والتى ستفاجأ أنها تعود إلى سنواته الأولى.
الطفل الذى استمع إلى ضحكات أمه وجمهور السينما حول «الصاروخ» يفهم بالطبع أن الموضوع له علاقة بشيء محرم، مضحك، ومخجل فى الوقت نفسه. وهذا الشعور تجاه الجنس سيظل موجودًا فى وعيه بشكل غير مباشر إلى ما تبقى من عمره.
أذكر هذا المثل للتأكيد على فكرة «الخجل» الذى يزرعه المجتمع تجاه أشياء بعينها، والكيفية التى يتحول بها الخجل إلى أداة فى يد السلطة للسيطرة والقمع، والكيفية التى يقوم بها «الفنانون» باستغلال هذا الخجل للعب بالمحرمات والتابوهات الدينية والجنسية والسياسية.
تلعب أفلام عادل إمام كلها على فكرة اللعب بالمحرمات من خلال «الخجل» المتولد منه، والأمر نفسه نجده فى معظم الأفلام الكوميدية، خاصة التى يقوم ببطولتها نجوم الكوميديا الجدد، وعندما نتكلم عن الأفلام «الهابطة» فنحن غالبًا ما نقصد الدرجة التى يصل إليها اللعب على الخجل، والذى يصل أحيانًا إلى مستوى مبالغ فيه من «الفجاجة» و«السوقية».
وللحديث بقية..