رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الشيخ "الأخرسي": "لميت" أشلاء عاطف السادات في صندوق

حرب أكتوبر
حرب أكتوبر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
■ حذائى ذاب من الملح بعد دخول منطقة «الملاحة» ومشيت حافيًا حتى اهترأ لحم قدمي
■ لم نصدق أسطورة خط برليف المزعومة.. وكنا على علم بكل ما يدور داخل ثكنات الصهاينة

في «بالوظة»، التي تبعد نحو ٢٠ كليو مترًا عن أول نقطة حدودية بشمال سيناء، قابلته هناك، في مكان أشبه بمضيفة واسعة، بلا أبواب، صنعت من الطوب الإسمنتى الضخم‏،‏ لها سقف من جريد النخل وأرض رملية فوقها بعض الحصير، وسجادة صلاة افترشها في اتجاه القبلة‏.
النار المشتعلة على استحياء، والتي كان يتطاير شررها بفعل الهواء الشديد، يغلى فوقها «براد» شاى تفحمت قاعدته مع مرور الزمن، أما هو يجلس في وقار وهيبة تفصح عن حكمته وتواضعه، وإلى جواره تجلس أعوامه التي تعدت الـ٧٠ عامًا بكل ما فيها من بطولات وإنجازات.
الرجل حقيقة لم يكن يومًا من راغبى الشهرة والتفاخر ببطولاته كواحد من أهل سيناء الذين شاركوا في نصر أكتوبر العظيم، بل اختار أن يكون مثل ذرة رمل في بناء عظيم، صَّب الشاى على مهلٍ، وأسند رأسه محاولا تذكر أكثر من ٤٠ سنة مضت على التحاقه بالكتيبة ١١ - حراسة، في منطقة وادى معزر في العريش، وبيده «كارنيه» جمعية مجاهدى سيناء، التي منحته نوط الامتياز من الدرجة الأولى من رئاسة الجمهورية، لمعاونته القوات المسلحة المصرية. 
محمد سالم سلامة راغب، من شيوخ قبيلة «الأخارسة»، تطوع للتجنيد في القوات المسلحة، وشارك في حربى الاستنزاف وأكتوبر، مهمته التي قيد فيها في السجلات الحربية، جندى حراسة، كل مهمته الوقوف أمام مستودع الألغام، لكنه كان عين الجيش المصرى في المواقع الإسرائيلية، يستطلع الأخبار ويعسعس على آخر تحركات الصهاينة، ويتلقى البريد القادم من أصدقاء له داخل المقاومة الفلسطينية آنذاك.
راغب يحكى لـ«البوابة» بلهجته السيناوية القديمة: «كنت بقف حراسة على مستودع ألغام في وادى معزر، وكنت بقف كمان على مستودعات الذخيرة والبترول، ووقت ما الحرب قامت مقدرناش نتحرك من المكان، وفضلنا أيام طويلة من غير أكل وشرب، وفى ناس ماتت مننا».
يرى الشيخ «محمد»، أن ما حدث من بطولات في حرب أكتوبر وبعد نكسة ‏٦٧، لا قيمة له بالحكى، وباغتت ذاكرته قصة جندى يعمل على مدفع هاون‏، كان ينتظر بعد أن يختبئ زملاؤه في الملاجئ، ويحمل الدانات على كتفه حتى استشهد فوق كرسى المدفع ودفن بعد ‏١٥‏ يومًا من وفاته، بعد أن عاد المهجرون بعد حرب أكتوبر إلى بيوتهم، حينها هرع «السيناوية» إلى مكاتب المخابرات الحربية، وشكلوا مجموعات عمل تحفظها ملفات المخابرات‏، فمنهم من تدرب على أجهزة اللاسلكى، ووقف آخرون خلف خطوط العدو، ومنهم من عمل بوسطجيًا يحمل المعلومات للغرب، ومنهم من تدرب على الصواريخ دون أي مقابل‏، ‏وسقط منهم الشهداء وسقط منهم الأسرى.
يوم السادس من أكتوبر، ذهب أهل منطقة «بالوظة» إلى الجبل في منطقة «قطية» خوفًا من القذائف والصواريخ، خلال رحلة البحث عن مخبأ، هناك شاهد «راغب» لحظة استشهاد «عاطف»، شقيق الرئيس السادات، ونجل الفنانة شريفة فاضل، إذ ضربه الطيران الإسرائيلى، فتناثرت أشلاؤه إلى قطع صغيرة، في مشهد تقطر له القلوب دما: «الطيران الإسرائيلى في لحظة، نزل من على ارتفاعه، وضربهم فاتحولوا لحتت صغيرة طارت يمين وشمال، وبعد ما الطيارة بعدت، لمينا جثثهم وحطيناها في صندوق».
خلال الأيام الأولى من اندلاع الحرب، كانت التعليمات تأتى بإخلاء المواقع المصرية ونقل الأسلحة والمعدات والذخيرة إلى أماكن آمنة، وفى غضون ذلك كان الطيران الإسرائيلى يحوم فوق سماء سيناء، لكن الصواريخ المصرية كانت تسقطه أرضا دونما عناء، وخلال وقت المغرب تحولت السماء إلى نار من الطلقات الكاشفة من الجانب الإسرائيلى، وأصابت الجنود في موقعهم حالة من الارتباك والفزع، وأخذ البعض منهم يركض مختبئًا خلف أحد السواتر، فضلا عن نيران الدبابات الإسرائيلية العشوائية لإثارة الخوف بين أفراد الجيش المصري: «فجأة السما بقت شعلة من نار، وجالنا حد من العساكر بيقول لنا امشوا الدبابات الإسرائيلية بتدوس وبتضرب وبتطحن أي حاجة قدامها»، لم تمر دقائق حتى اندلع حريق كبير أمتد إلى مخزن البترول بعد أن أصابته قذيفة، وصل صداها إلى باقى المستودعات، يتابع: «البراميل والجراكن في مستودع الذخيرة اللى ولع، كانت فيه مواد ملتهبة، والدشم اللى نحون المستودعات طارت، والمنطقة كلها ولعت، في الوقت دا كنت قاعد أنا وزميل ليا من عرب العامرية في إسكندرية، قدرنا نستخبى من النار، وبعد الضرب ما خلص، طلعت أنا وزميلى نبص على المعسكر، مالقيناش حد، منهم اللى مات ومنهم اللى هرب».
سار «راغب» ورفيقه حتى أول نقطة حدودية للمنطقة، فوجدا معظم أفراد الكتيبة ينتظرون هناك، وخلال ذلك كان الجنود الذين وصلوا للنقطة، يبحثون عن بقية الأفراد المتغيبين، بعد ذلك سار أفراد الكتيبة حتى بورسعيد سيرًا على الأقدام، خلال ذلك قابل «راغب» الرائد مدحت مرسي من المخابرات، وكلفه وزملاءه بمهام جديدة في المراقبة والاستطلاع والتصوير من المواقع الإسرائيلية.
لم يكن أحد من أفراد الجيش المصرى، يصدق أسطورة خط برليف المزعومة، بل كانوا على علم بكل ما يدور داخل ثكنات الصهاينة، من خلال الرصد والمراقبة والمتابعة، وتمكن «راغب» مع زملائه من تعطيل الأجهزة الإلكترونية الخاصة بإسرائيل: «كل اللى كان اليهود بيعملوه كنا عارفينه ومراقبينه ورصدينه».
مثلت مجموعات التجسس التي كونها أهل سيناء العامل الأقوى الذي ساهم في تحقيق حلم العبور - كما يصف «محمد» - وفاقت قدراتها كل وسائل التجسس الحديثة، ومن ذلك ما قامت به مجموعة الصيدلى حمودة الأزعر، إذ أصبحت الصيدلية مقرًا للقاءات الفدائيين الذين كانوا يتبادلون فيها التعليمات بتنفيذ المهام القتالية، وكان منها تدمير الهدف «٢٦ أ. ب»، وكان عبارة عن محطة محولات كهربائية تشمل ٣ محولات ضخمة تمد معسكرات الجيش الإسرائيلى ومخازن أطعمته وذخائره بالتيار الكهربائى، وفى ليلة تنفيذ العملية كان قد تم تجهيز العبوات الناسفة في منزل عبدالحميد الخليلى وتم نقلها إلى مكان تنفيذ العملية، وفى الوقت المحدد قام كل من محمد عبدالغنى السيد وعدنان شهاب البراوى بالإجهاز على الحراس الإسرائيليين الثلاثة، وفى الحادية عشرة مساء ارتجت سماء العريش وأضاء ليلها انفجار مروع اختفت على أثره المحطة من الوجود، أما الفدائى عمران سالم عمران فقد شارك في تنفيذ أكثر من ١٥٠ عملية مع رفاقه ودمروا فيها دفاعات العدو في رمانة وبالوظة ومطار العريش وقطعوا خطوط الإمداد ونسفوا مستعمرة «نحال سيناي» التي كانت مقر القوات الهليكوبتر ما أسفر عن قتل ٢١ ضابطًا وجنديًا وتدمير ١١ طائرة، بالإضافة لتدمير مستعمرة الشيخ زويد ونسف محطة رادار.
طوال تلك السنوات الطويلة، لم يستطع «راغب» نسيان موقف أحد اللواءات العسكريين، بعد أن استشهد كل أفراد كتيبته، وتاه في الصحراء، وظل يمشى حتى صادفه «راغب» خلال عملية التلصص والمراقبة، يحكي: «قابلت لواء من المخابرات كان تايه في الصحراء، وكان تعبان أوى ومصاب، وقالى أنا عايز أرجع العريش، اتعكز عليا، وخرجنا على الطريق، وفجأة وإحنا ماشين كان فيه مدرعة إسرائيلية معدية، وكانت هتخبطه، فرميت نفسى عليه وفديته، ووقعنا على الأرض، ولحسن الحظ العربية مشفتناش، وبعدها قمت جرى وسحبته من رجليه عشان نعدى الناحية التانية، نستخبى منهم».
خلال رحلة الوصول إلى العريش، كان اللواء المصاب متعبا من السير، وكل بضعة مترات يسأل «راغب» عن مكان الوصول، فيسأله باقى بضع كيلوات، وفى الحقيقة كانت المسافة أكبر من التي كان يخبره بها، حتى يستطيع الصمود لمدة أطول، مما أثار الريبة في نفس اللواء، وقال له: «انت بتكدب عليا، انت مودينى فين؟!»، حينها استشعر «راغب» أنه لا يثق به وخائف من أن يكون خائنا، فرد «راغب» قائلا: «انت خايف ليه، ما أنا ماشى معاك، واللى هيجرالك هيسرى عليا أنا كمان»، خلال ذلك وجد الاثنان بركة من طين، متجمعة في مكان قريب من البحر الأبيض، حينها سقط اللواء مغشيًا عليه، فسحبه «راغب» حتى موضوع المياه، وراح يصَّب عليه الماء، ويغسل وجهه ورأسه من آثار الطريق.
بعد بضعة كيلوات قليلة، وصلا إلى ثكنة عسكرية بها إسعاف وأدوات مجهزة لاستقبال الحالات المصابة من القوات المسلحة المصرية، وحين جاءت له إحدى الممرضات، صار يصرخ «محدش يلمسنى، ابعدوا عني»، ونادي على «راغب» لكى يقوم هو بإسعافه، يقول: «الراجل جاتله حال هيستريا، لما الممرضة جت علشان تعالجه، ونده عليا تعالى تعالى، محدش يجى جمبى غيرك، وكل ما آجى أتحرك، يزعق فيا يقولى أقعد ما تتحركش».
خلال عمل «راغب» في المراقبة والاستطلاع، كان يقابله بعض الفلسطينيين من عرب ٤٨، يمدونه بالطعام والشراب هو وزملاءه، ويراقبون لهم الطريق حماية لهم من العيون الإسرائيلية، حتى قبضت القوات الإسرائيلية، على زملاء له واقتادوهم إلى المحاكمة، خلال حملهم لـ«البوسطة» التي تحمل معلومات ومخططات للجيش المصرى، وأصابوا أحدهم في وجهه برصاصة هشمت خده الأيمن، وتكتم الجانب الإسرائيلى على قبضه عليهم، في نفس اليوم، قرر «راغب» سلك طريق آخر غير زملائه، من بورسعيد إلى العريش، وأنقذته العناية الإلهية من الوقوع في شرك الكمين الصهيونى، يوضح: «شيء إلهى كده، قالى أغير خط سيرى، وحسيت إنى ماشى غلط، لكن زمايلى أصروا على الطريق اللى مشيوا منه».
دخل راغب إلى منطقة «الملاحة» بساحل الطينة، وظل يسير بها لأكثر من ٧ ساعات، بعد أن ذاب حذاؤه من الملح، واضطر إلى أن يمشى حافيا، حتى اهترأ لحم قدميه من الملح: «رجلى باشت من الملح اللى مشيت عليه ساعات طويلة، لحد ما رجلى جابت دم، وبقيت بزحف على بطنى من شدة الألم، وقطعت البنطلون اللى كنت لابسه عشان أربط بيه رجلى، وبرده ماكنش فيه فايدة».
الآلام المبرحة التي كان «راغب» يشعر بها، أفقدته الأمل في النجاة، ولم يبال حتى إذا قبضت عليه إسرائيل: «ماكنش هممنى لو إسرائيل حتى قبضت عليا، وبعدها بشوية، قبضوا عليا الصهاينة، وخدونى عندهم في منطقة اسمها «رابعة» عند المطار، ولاقيت ناس كتير من العرايشة مقبوض عليهم، وكان في تهديدات، اللى هيحاول مننا يهرب هيضرب بالنار، ولاقيت زمايلى هناك، وكانوا عاوزينا نعترف على بعض».
خلال طوابير التحقيق، تمكن «راغب» وصديقه «الهرش» من الهرب وركضا ناحية أرض مزروعة بالنخيل، وبعد أن وصلا أدركا أنهما أخطآ بقرار الفرار وتركا زملاءهما، يقول: «بعد ما شردنا، قلت لصاحبى طب إحنا نهرب ونسيب زمايلنا إزاى، ورجعنا تانى فعلا».
بعد أن عاد الصديقان إلى الكمين الإسرائيلى، وقبض عليهما، بدأ سيل الأسئلة والتحقيقات، فسألوا «راغب» الذي كانوا يظنون أنه ضابط بالقوات المسلحة: «ما علاقتك بالقوات المسلحة المصرية؟»، فأجاب: «قوات مين؟، يعنى إيه حربية مصرية؟»، اعتقد «راغب» أن حالة «الاستهبال» التي ساقها على فرد التحقيق ستمر بسلام، لكنها بالطبع أدت إلى وضع سلاح أبيض كان يحمله «مطواة» على رقبته، تهديدًا له ليكف عن الكذب والمراوغة، حينها قال الشهادتين وسلم أمره لله، فأصابتهم حالة من اليأس، فوضعوه في إحدى طائرات الهليكوبتر الخاصة بهم، وهبطت على إحدى معسكراتهم، وعقدوا محاكمة لكل المقبوض عليهم، وبعدها أخلوا سبيل الجميع. 
خلال فترة النكسة، قلّت المؤن وقررت القوات المسلحة استبقاء البعض، فكان البدو يخدمون الجيش ويقدمون لهم الطعام والخبز، فلم يكن هناك بيتًا من بيوت العريش لم يساند الجيش بكل ما يملك: «بعد النكسة استبقونا كنا بنخبز العيش في الرمل، وكان كل بيت في العريش، يطلع مخزونه من القمح والدقيق، ونخبز العيش للعساكر، مكنش في إيدنا حاجة ومعملنهاش عشان الجيش».